مشعل العبادي
عُرفت الفلسفة في الأوساط الأدبية بتملك قدرة واسعة على وصف “تشظي الذات” والمجتمع عبر اللغة؛ فالأدب كما يصفه د. “محمد غنيمي” في كتابه “النقد والنقد المقارن”:
“إن الأدب يندرج في عداد الفنون الجمالية من تشكيله وتعبيره، وهو يشترك معها في التعبير عن الحالات النفسية والوجدانيات، على أنه ينفرد دونها بأن أداة التعبير فيه هي اللغة واللغة أصلها وسيلة نفعية في طبيعتها”.
رواية “أصوات عالية في الطريق إلى الشمال” للروائية التونسية هيام الفرشيشي، تنطلق أحداثها من تفاصيل الواقع البسيطة للريف التونسي وتمتد إلى جزء من المدينة، وتسرد لنا “واقع” لشخصيات “عادية”، أي لا تخطئ العين عاديتها وبساطتها وانصهارها في تيار الحياة تارة، وفي أفكارها الخاصة تارة أخرى، وتصف تأملاتها حول الحياة والأفكار، وتارة ثالثة تروي ما حدث لها طوال الطريق، وذلك عبر أحداث الرواية التي تتعثر مع الشخوص إثر بعض العواصف العاتية من المجتمع والبشر.
عتبة الغلاف:
یعد غلاف الكتاب هو واجهته الرئیسة، وأول ما تقع عليه عين المتلقي، ويعد العتبة الأولى، وهو البوابة التى يعبر القارئ من خلالها إلى محتواه، فكما لكل منا وجه له ملامحه التي تميزه عن غيره، فلكل كتاب غلاف يميزه ويميز فنانه أيضا ويعبر عن كاتبه، ويعكس محتواه، وكما أن للغلاف وظيفته، فالغلاف ليس مجرد صورة جميلة فقط، بل يُعد قراءة إبداعيةأخرى موازية للكتاب، وهو أهم العتبات، ومن لا ينتبه إلى طبيعة ونوعية العتبات يتعثر بها، ومن لا يحسن التمييز بينها من حيث أنواعها وطبائعها ووظائفها يخطئ أبواب النص فينغلق النص ويبقى خارجه.
جاء أعلى الغلاف على شكل تدرجات من اللون الأحمر، الذي يرمز في علم النفس اللّوني إلى العديد من الدلائل والرموز المُختلفة والمتناقضة، حيث أن اللون الأحمر يرتبط بالعاطفة والحب بالإضافة إلى القوة والغضب والشدة، وأطلت تدرجات اللون الأحمر كفروع وأوراق شجرة تظلل بداية الغلاف العلوية، ثم تموجات متداخلة ومتمازجة من اللونين الأبيض والرمادي، يتوسطهما العنوان في تعمد لإزاحة للضوء وتصدير العنوان في قلب اللوحة، والذي كُتب باللون الأحمر أيضا، وبحجم كبير في صدارة الجزء العلوي من الغلاف، ويندرج اسم المؤلفة باللون الاسود، ثم تظهر في الأسفل وعلى جانبي الغلاف تموجات غير متماثلة باللون الأخضر، والأخضر هو بالأصل دلالة على وجود الخير وكمونه داخل النفس البشرية، بينما تظهر في طرفي الغلاف المتقابلان تموجات باللون الأزرق السماوي، والذي يرمز لصفاء الماء، ونجد أيضاً تناثر لبعض نتوءات البنّي “اللون القاتم” وهو دلالة على التخبط النفسي والقتامة، نجده يحيط تجسد – مموه – لسيدة تقف بالمنتصف، وترتدي زرقة أكثر دكنة من زرقة الماء، وقد رُتّبت العتبات النصية (العنوان واللوحة الفنية والتجنيس واسم المؤلف) بالترتيب والذي أجده تدليلاً واضحا على أهمية بيان الإنتاج الفني بشكل متوازن ليؤدي دوره في توصيل رسالة فنية ضمنية للعمل وكذا للفت انتباه المتلقي.
العنوان:
“أصوات عالية” وهو العنوان الرئيسي للنص الذي يشير لأهمية الانتباه -الإصغاء- وربما يحمل نداءًلخفضه، ومراعاة للغير من أصحاب النداءات الخافتة، الذين لم يثقلوا كاهلنا بمعاناتهم، وربما إشارة حتى ننعم أيضا بهديرها الناعم أحيانا، والصاخب في أحيان أخرى، إذاً فالعنوان تدليل على إنها رواية إنسانية بالمقام الأول، وتعني بـ”صوت” الإنسان وبـ همّه الوجودي..
ثم يأتي عنوان لاحق بين قوسين: (في الطريق إلى الشمال)، وهو عنوان مضاف؛ يقرع الجرس للانتباه للمتلقي بأن القصة لها وجه آخر، وأن الحكاية ممتدة، وتحتمل المزيد لتعددية الصوت؛ فاختارت الكاتبة “أصوات” وليس صوت، وهو تعدد ينبني عليه السرد أيضا، كما استبقت واختارت الوجهة أيضا وحددتها، وأبرزت أهمية المكان ووظيفته السردية فيما بعد داخل النص .
ثم تلي مرحلة الغلاف.. “المقدمة التحليلية” الوافية، والتي قدمها د. “رياض خليف”، وتلاها الشطر الأول من الإهداء:
“إلى شخصيات استفزت يقيني، وفتحت لي مسالك السير في طريق ملتو، أدخلتني ردهات وسراديب وتعرجات روايتها، حاولت التنصل منها، وتركتها تغفو على دفاتري سنوات .. لتنبعث رواية منفلتة”.
إذاً فهذه رسالة للمتلقي من الروائية: “كن مستعدًا لرحلة في سرد يضفر الواقع مع نبذة من الخيال معاً”، إنها رواية منفلتة! منفلتة ممّ؟ من قواعد السرد؟ أم من الخيال، أم منفلتة من الواقع، أم من المنطق الإنساني الرخو؟
وكلاهما -أي الخيال والواقع- في حقيقة الأمر يدوران حول معنى الحياة نفسها، مما يؤكد فكرة تعدد المسارات المشار إليها أعلاه.
ثم أكملت بالمقطع الثاني من الإهداء ..
“كانت الكتابة عن تلك الشخصيات في قرية جبلية يشقها الوادي كجرح عميق.. تنبعث من مائه المالح تأوهات شخصيات نجت من دواماته وتلقفتها السبل”.
غير أننا نلمح من نص الإهداء أن الأحداث التي ستروى هنا ستكشف حتما عن حيرة وارتباك العقول والأرواح، وتلقي بعض الضوء على مصائرها، ومصائر الناس داخل تلك الأحداث وخارجها.
وأنا أرى أن هذين المقطعين من الإهداء يلخصان المعنى العام للرواية، ويفتحان الأفق للمزيد من التساؤلات، وإذا غامرنا وقرأنا النص سنجد أننا أمام العديد من أصوات أهل الشمال وليست ثلاثة أصوات فقط. إذا ما أخذنا بالحسبان صوت الكاتبة والذي أفردت له مساحة تخللت بعض الفصول، وأفردت له فصلا ختاميا تميز بالوعي الذاتي.
تعدد الأصوات:
رصدت هيام الفرشيشي عدة شخصيات، كما رصدت للمتلقي تنامي البناء الدرامي والنفسي، وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن الرواية “بولفينية” أي هي رواية تعدد أصوات، فعلينا الانتباه أيضا بأنها رواية مجتمع له “خصوصية”، بالرغم من أنه تعاقب عليه الكثير من المتغيرات، وتحتاج مثل تلك الخصوصية إلى صوت سردي مخلص للحكايا وللقص، وينتقي أساليبه السردية بعناية، لخصوصية الفضاء السردي المحلي (شمال تونس)، كما إنها بحاجة عين تلتقط ما اعتراها من “متغيرات” وتفاصيل اليومي والمعاش في تلك البيئة الجبلية الخاصة، وإلماماً بتاريخ المنطقة وما تعاقب عليها من تغييرات ديموغرافية، وسوسيلوجية؛ فالرواية إذاً ليست مجرد رحلة سفر نحو الشمال، بل هي تعدت ذلك؛ فهي في واقع الأمر تبحث حول معنى الحياة ذاتها.
هشاشة وضعف الشخصيات في مجتمع متشظي:
أبطال وشخوص الرواية في غاية الضعف والهشاشة وقلة الحيلة – رغم تفاوت المستوى المادي – يتوزعونبين تفاصيل الحياة في العمل والأسرة والتأملات الخاصة، وبين ذاكرتهم التي تبدو منتعشة ومتيقظة وفي غاية النشاط والحيوية، يقارنون دوما بين الماضي “الجميل” وبين الحاضر “المربِك” الذي لا يحوز على رضاهم، وبين اللجوء إلى المخدرات وممارسة الطقوس الغرائبية، ربما ينشدون الخلاص ولو كان خلاصا مؤقتا، وربما لانغلاق الأفق وانسداد الطرق مثل “خيرة”، وابن عمها “أحمد”، وكذلك “سارة” وشقيقها “يوسف”، ولذلك نلمح هؤلاء الناس الضعفاء المرتبكين يتحركون – يتأرجحون – في هذين المستويين أو على هذين المسارين المذكورين: مسار واقعي عادي للغاية، ومسار تأملي، كل مسار منهما، أو كلاهما، يطرح تساؤلات، ويؤدي إلى تساؤلات أخرى، ويوَلِّد تساؤلات من نوع ثالث مثل:
“هل المجتمع متشظي بالفعل أم هي هشاشة فردية؟”
في هذه الرواية تحلق الأرواح في فضاء خانق، بحثاً عن المعنى، فلا تجده إلا في تأمل الماضي، أو في الانزواء في غرف مظلمة، منغلقة، ورطبة وخانقة، سواء كانت هذه الغرف حقيقية وواقعية أو أحلاما ضيقة، تمثلت في الركون إلى الماضي، أو في تناول أقراص مخدرة، أو إقامة شعائر وطقوس غرائبية، أو تكوين صور ذهنية عن أشياء متخيلة؛ فالأرواح هنا تبحث أيضا عن الخلاص المنشود، الخلاص المتصور وغير الموجود بالواقع؛ فقصص الرواية بأحداثها وشخوصها، وتأملاتها وذكريات أبطالها، تمثل حالات مختلفة من الانكسار؛ فرحلة “خيرة” إلى فرنسا ورغبتها في نسيان الفترة الداكنة التي حُبست فيها وقيدت في حوش جدها، وتعذيب “سارة” لها وحرقها، ورغبة “سارة” فى خوض ذات الرحلة وإن اختلفت المقاصد والنوايا، هو رحيل لم يكن بحثا عن الخلاص من القيود المكانية ولكنه خلاص روحي أيضا ورغبة بغسل كل الأدران النفسية لتلك المرحلة.
ترميم الروح:
إنّ تحليل رواية “أصوات عالية” من المنظور الفني يكشف عن عدد من الخصائص المنبئة عن امتلاك الروائية “هيام الفرشيشي” لعدد مهم من الأداوت الفنية التي مكنتها من إنجاز عمل روائي رائع ، وامتلكت شعرية في اللغة عَلَتْ بالنص إلى درجة المتعة الجمالية، ومكنت المتلقي من ارتشاف اللذة الفنية.
لقد سعت “هيام الفرشيشي” إلى نوع من إصلاح العالم من خلال السعي إلى ترميم الروح، ومن أجل أن تصل الرسالة إلى القارئ المعاصر، بما تضمنته من أفكار، وطموحات، وما وظفته من تقنيات وعناصر بديعة، كل هذا يؤكد بأنّنا أمام




