رواية “عراقيات هلسنكي” للكاتب العراقي أمجد طليع تُعدّ واحدة من الأعمال الأدبية التي تسلط الضوء على تجربة الهجرة من زاوية إنسانية عميقة، وتحديدًا من خلال عدسة مهاجرين عراقيين استقروا في فنلندا، وتحديدًا في العاصمة هلسنكي. ومن خلال هذه الرواية، نتابع الحكاية الشخصية لزوجين عراقيين، بطل الرواية هو: الفردوس وزوجته منى، اللذين يمثلان نموذجًا معبرًا عن صراع الهوية والانتماء والانهيارات العاطفية التي تلاحق المهاجرين في بيئة جديدة ومختلفة جذريًا عن وطنهم الأصلي. وهي بذات الوقت تعكس الصراع النفسي، والوجودي لجماعة المهاجرين، وشعورهم بالغربة والضياع، وما ينتج عن هذين المفهومين من جروح نفسية.
الفردوس، بطل الرواية، يهاجر إلى هلسنكي، وهو يحلم بحياة أكثر استقرارًا وكرامة، إلا أن ما يلاقيه على أرض الواقع سرعان ما يبدد هذه التوقعات، ليصطدم بواقع الاغتراب القاسي الذي لا يرحم. زواجه من منى، التي أنجبت له طفلين، يبدو للوهلة الأولى حلاً عاطفيًا ووطنًا صغيرًا في قلب الغربة، إلا أن هذا الزواج سرعان ما يصبح مرآة للخذلان العاطفي والوحدة النفسية، والاطمئنان المؤقت. منى، تلك المرأة الجميلة التي تمثل حلم الفردوس، سرعان ما تتحوّل إلى رمز للغربة المزدوجة، ليس فقط الجغرافية بل أيضًا العاطفية، والنفسية في تلك البلاد القصيّة. هي مهاجرة مثله، لكنها تندمج مع المجتمع الجديد بطريقتها الخاصة، حيث تهمل زوجها، فتقضي وقتًا طويلًا في محادثات هاتفية مع نساء أخريات، وتتحدث لساعات عبر الموبايل، غير عابئة بحاجة زوجها إليها، سواء كأنثى أو كشريكة في مواجهة غربة قاسية.
واحدة من المفارقات اللافتة التي يطرحها الكاتب هي مسألة تغيير اسم “منى” إلى “رولا”، بعد أن تبين أن الاسم يحمل دلالة نابية في اللغة الفنلندية، حيث يعني “خصية”. هذه الحادثة الرمزية تكشف عمق التنافر الثقافي، وكيف أن الهوية، حتى في أبسط تجلياتها كالاسم، يمكن أن تُمسخ في بيئة جديدة، لتصبح محل سخرية أو عبء. ومع أن السلطات تُجبر العائلة على تغيير الاسم رسميًا، إلا أن الأبطال يواصلون مناداة منى باسمها القديم، وكأنهم يقاومون الذوبان التام في الهوية الجديدة، ويتمسكون بشيء صغير لكنه عزيز من ذواتهم القديمة.
تبدو الرواية، رغم سردها البسيط، غنية بالرموز والمعاني. فالفردوس، مثل اسمه، يبحث عن جنة موعودة في هلسنكي، غير أن هذه المدينة، رغم جمالها وشوارعها المنظمة وربيعها الساحر، لا تمنحه ما يبحث عنه. هو يفتقد الصداقة، الونس، الانتماء، وتتحوّل حياته الزوجية إلى سلسلة من الخيبات العاطفية، فيبدأ بملاحقة النساء والتغزل بجمالهن. هذا السلوك ليس مجرّد خيانة زوجية، بل هو هروب من وحدة داخلية قاتلة، وتعويض رمزي عن فقدان الحميمية التي حُرم منها داخل زواجه، وعن هوية مهددة بالذوبان في مجتمع لا يرحب به كليًا ولا يلفظه تمامًا.
أما اللغة التي يستخدمها أمجد طليع في الرواية سلسلة، أنيقة، بعيدة عن التعقيد اللغوي، والكلمات الفضفاضة، ولكنها في الوقت ذاته مشبعة بالصور والوصف الجميل، خصوصًا حين يتحدث عن شوارع هلسنكي، حدائقها، محطات المترو، ناسها، ثقافتهم المختلفة عن ثقافتنا العربية، وربيعها المبهج المتوّج بالحياة. وبهذا يخلق الكاتب حالة من التناقض بين جمال المكان وبؤس الإنسان، الانسان الذي يشعر بالضياع التغريب الروحي. فبينما المدينة نظيفة، مرتبة، تفيض بالحياة، يعاني البطل من شعور مستمر بالاغتراب. إنه لا يجد صديقًا يشاركه فصل الربيع أو الصيف، وهذا يسلط الضوء على المسافة العاطفية بين المهاجر والمجتمع المستضيف، وهي نوع من الفلسفة التي لا ندركها، نحن الذين لم نجرب معاناة الغربة، وآلام البُعد عن الوطن والأهل والاحباب.
وفي جانب آخر من الرواية، يقدّم الكاتب شخصية الدكتور رافد، مثالاً آخر على مصير الكثير من المهاجرين الذين لم يتمكنوا من التأقلم. فهو دكتور مثقف، يحمل شهادات علمية، لكنه يعاني من الحنين إلى الوطن، “الهومسك”، فينتهي به المطاف إلى الإدمان على الكحول، فهي سلوته في هذه البلاد النائية. هذه الشخصية تمثل الوجه الآخر من العملة: المهاجر الذي لا يستطيع كبت غربته، فيتدهور نفسيًا وجسديًا. من خلاله، ينتقد الكاتب السياسات الأوروبية التي تُسهل اللجوء ولكنها لا تهيئ بيئة حاضنة ثقافيًا واجتماعيًا لهؤلاء الوافدين.
تصل الرواية إلى ذروتها عندما تدخل العلاقة بين الفردوس ومنى منعطفًا حادًا إثر خصام عنيف، تهدده فيه منى بأنها ستبلّغ الشرطة عنه، بمتهمة التعنيف واساليب أخرى كالضرب. هذا التهديد يمثل لحظة صادمة للفردوس، إذ يدرك أن القيم التي جاء منها لم تعد تنطبق على واقعه الجديد. هذا المشهد يمثل أيضًا انهيار الحلم المهاجر بشكل نهائي، فحين تصل العلاقة بين زوجين إلى تهديد قانوني، في بلد لا يرحم، يدرك المرء أن حتى الشراكة العاطفية لم تعد ملاذًا آمناً، وبالتالي سيشعر بانتكاسة، وأن البيئة تلك لم تعد صالحة له، كأنه يريد القول إن العودة الى حضن الوطن أولى.
البطل، نتيجة لهذا التنافر المتراكم، يقرر العودة إلى العراق، الوطن الذي غادره يومًا بحثًا عن حياة أفضل. أما منى، فترفض البقاء في هلسنكي، لكنها لا تلتحق به، بل تختار السفر إلى تركيا، وكأنها تبحث عن منطقة رمادية، لا هي جنة الشمال ولا جحيم الوطن. تنتهي الرواية هنا، بشتات جديد، بتفكك الأسرة، وبانتهاء حلم الهجرة الذي لم يحمل معه سوى خيبة مزدوجة.
ما يجعل “عراقيات هلسنكي” رواية لافتة هو أنها لا تقع في فخ الرومانسية الزائفة للهجرة، ولا تنساق في خطاب الكراهية ضد الغرب، بل تقدم واقعًا معقدًا، يفيض بالمرارة والحنين والخذلان، وتُذكرنا كثيرًا برواية “الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، لا من حيث البناء السردي فحسب، بل أيضًا في تناول موضوع الاغتراب الثقافي، وصدام الحضارات، وتحول الهجرة من أمل إلى لعنة.
إنها رواية تستحق القراءة، لأنها ببساطة تُظهر أن الجغرافيا لا تكفي لصناعة السعادة، وأن الهروب من الوطن لا يعني دائمًا النجاة، بل قد يكون بداية لغربة أعمق، لا تداويها شوارع هلسنكي المزدهرة ولا ربيعها الأخضر، حين يكون القلب معلقًا في مكان آخر، والروح ممزقة بين وطن ضائع وواقع لا ينتمي إليه المرء حقًا.
الرواية تقع في 167 صفحة من القطع المتوسط، وهي من منشورات دار أهوار بغداد – شارع المتنبي لسنة 2025.