الورقة النقدية التي قدمت في ندوة منتدى البحرين الابداعي للروائي العراقي  “غائب طعمة فرمان “والرواية العراقية الحديثة / النهار / حمدي العطار

هيئة التحريرمنذ 3 ساعاتآخر تحديث :
الورقة النقدية التي قدمت في ندوة منتدى البحرين الابداعي للروائي العراقي  “غائب طعمة فرمان “والرواية العراقية الحديثة / النهار / حمدي العطار

الحديث عن غائب واعماله الخالدة هو حديث عن معاناة العراق وشعبه وعن معاناة المثقفين والفرد العراقي البسيط! لذلك تم اختيار ثلاث روايات لغائب فرمان تمثل رؤية الروائي عن المجتمع العراقي في فترة الحرب العالمية الثانية جسدها في رواية (النخلة والجيران) سنة الاصدار 1966، ورواية (خمسة اصوات) التي تناولت ازمة المثقف العراقي في مرحلة 1952-1954 ,سنة الإصدار 1967، ورواية (الأم السيد معروف) سنة الاصدار 1980 والتي جسدت معاناة وهشاشة  الانسان العراقي البسيط!

في تاريخ الأدب العربي المعاصر، يقف غائب طعمة فرمان بوصفه أحد أبرز رواد الرواية العراقية، وصوتا أدبيا حمل هموم الإنسان وملامح مدينته إلى صفحات الخلود. هو الكاتب الذي جمع بين موهبة السرد العميق، ودقة التصوير، ودفء الحنين، فكان شاهدًا على تحولات العراق في القرن العشرين، وناقلً صادقا لنبض الحياة في أزقته الشعبية، رغم اغترابه الطويل.

*خمسة أصوات… رواية الوعي والاغتراب

تعد رواية “خمسة أصوات” لغائب طعمة فرمان واحدة من أكثر النماذج الروائية العراقية تعقيدا من الناحية الفنية والفكرية، إذ تجسد تعددية الأصوات والوعي في آن واحد. فهي ليست مجرد حكاية عن خمسة مثقفين يعيشون أزمة وجودية، بل هي مرآة تعكس مأزق جيلٍ كامل من المثقفين العراقيين في خمسينيات القرن العشرين، حيث التناقض بين الانتماء والاغتراب، وبين الحلم والواقع.

اعتمد فرمان في بنائها على منولوجات داخلية مستقلة، لكل شخصية رؤيتها وتجربتها الخاصة، ما جعل الرواية متعددة الأصوات بحق. لكن اللافت أن صوت المرأة غاب تماما عن هذا التعدد، فجاء العمل حبيسا لعالم رجالي وقد انتقد فرمان هذه الجزئية في حوار بين ( ابراهيم) وشقيقة خطيبته عليا اذ تقول له” ليست جريدتكم(  الناس) لكل الناس/ لاي طبقة اذن؟- سألها ابراهيم منتظرا ان تحرج/- لنصف المجتمع/ – إذا كنت تقصدين عدد المتعلمين فهي والجرائد الأخرى لاقل من عشر المجتمع/ -لا أقصد المرأة.المرأة نصف المجتمع فأين ركن المرأة فيها؟!، ( -اعترف لك اننا لم نفكر بذلك.”ص91 في حين سيظهر حضور المرأة بشكل أوسع في أعماله اللاحقة مثل رواية المخاض، وهو ما يعكس التحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفها العراق بعد ثورة 14 تموز.

الرواية تضع المثقف العراقي في مواجهة مأزقه الحقيقي: مثقف يمتلك الوعي والمعرفة لكنه عاجز عن الفعل والتغيير. شخصياتها الخمس – سعيد، إبراهيم، شريف، حميد، وعبد الخالق – تمثل نماذج مختلفة من هذه الأزمة.

  • سعيد المثقف الحالم، المتردد والباحث عن هوية ضائعة، المنتمي المغترب الذي يعيش صراعا بين الأمل واليأس.
  • إبراهيم أكثر توازنا وعقلانية، يرى أن مشكلة المثقف تكمن في عجزه عن فهم الحياة بعيدا عن الكتب.
  • شريف المتمرد الوجودي المستلهم من الشاعر حسين مردان، يعيش تناقضا بين عالمه الشعري وأوهامه وبين واقعه المأزوم.
  • حميد الرجل المزدوج، رب أسرة قاس يعيش حياة سرية عبثية تنتهي به إلى عزلة وضياع.

( لا تعني أن الناس سينتقلون الى أوربا دفع واحدة. لا بد من رواد/ ليكن الآخرون روادها

  • عبد الخالق المثقف الواعي العاجز عن الاندماج، المتأرجح بين الملل والانتظار والتفاؤل بالمستقبل.( لان المستقبل مجهول)

بهذا التشكيل الصوتي المتعدد، استطاع فرمان أن يحول معاناة هؤلاء الأبطال إلى صورة مكثفة عن أزمة وطنية أشمل. فالرواية ليست فقط صراع أصوات، بل أيضا سجال بين النص والتاريخ، بين الواقع الاجتماعي والسياسي وبين وعي المثقف الفردي. وقد أجاد فرمان في تجسيد ذلك عبر تقنيات السرد المتداخل وتوزيع الفصول، حتى لتبدو الرواية أشبه ببنية موسيقية تتداخل فيها النغمات والأصوات.

في النهاية، لا يمكن قراءة خمسة أصوات بمعزل عن سياقها التاريخي. فهي ابنة مرحلة 1954 بما حملته من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية تركت بصمتها العميقة على وجدان المثقفين العراقيين. ومن هنا تكتسب الرواية أهميتها، إذ تحولت إلى شهادة أدبية على زمن مأزوم، وصرخة وعي مأساوي ظل يتردد في أجيال لاحقة.

إن “خمسة أصوات” ليست رواية أشخاص فحسب، بل هي رواية أزمة جيل كامل، أزمة المثقف العراقي الذي عاش تناقضات الانتماء والاغتراب، وظل ممزقا بين الحلم الكبير والواقع المسدود. إنها رواية ما زالت تحتفظ براهنيتها، لأنها تضع القارئ أمام سؤال لا ينتهي: هل يستطيع المثقف أن يكون فاعلًا في مجتمعه، أم يبقى أسير وعيه واغترابه؟

الملاحظات النقدية حول رواية (خمسة أصوات) للروائي غائب طعمة فرمان

يعد الروائي الراحل غائب طعمة فرمان أحد أبرز الأصوات السردية في العراق والعالم العربي، إذ استطاع أن يرسّخ حضوره الأدبي عبر رواياته التي وثقت هموم الإنسان العراقي وتحولاته السياسية والاجتماعية. وروايته الشهيرة خمسة أصوات (1967) تشكل محطة مهمة في مسار الرواية العراقية، لما تنطوي عليه من ملامح حداثية وتجريبية، ولقدرتها على طرح أسئلة الهوية والمثقف والالتزام في سياق تاريخي مضطرب. وفي هذه الورقة النقدية، سنقف عند أبرز الملاحظات الفنية والفكرية في الرواية.

أولاً: تعدد الأصوات

يتجلى العنوان خمسة أصوات باعتباره مفتاحاً دلالياً للنص، إذ يحيل مباشرة إلى مفهوم “تعدد الأصوات” الذي تحدث عنه باختين في تحليله لروايات ديستويفسكي. ورغم أنّ السرد أوكل إلى الراوي العليم، إلا أنّ اختلاف وتباين وجهات النظر بين الشخصيات الخمس يظل واضحاً، مما منح النص ثراءً في البنية الحوارية وتعدداً في زوايا النظر.وتتركز براعة فرمان في فصلي 16 والفصل الاخير الذي يضع لهن رقم الخمسة اذ تتداخل الاصوات الخمسة في السرد وهو هنا يحاكي اسلوب فوكنر في الصخب والعنف!

ثانياً: البنية الزمنية

اعتمد فرمان زمناً خطياً واحداً يمتد بين عامي 1952 و1954، دون قفزات زمنية أو تعددية في الأزمنة، على خلاف ما عرف عن بعض تقنيات الرواية الحديثة. ويلاحظ أن هناك فجوة زمنية بين أحداث الرواية وزمن صدورها عام 1967، وهي فجوة حملت تحولات سياسية كبرى في العراق: ثورة 1958، انقلاب 1963، حرب حزيران 1967، وصعود الواقعية الاشتراكية. ورغم ذلك، بقيت الرواية أسيرة زمنها المحدد دون أن تنعكس هذه التحولات داخلياً.

ثالثاً: المكان

تتركز أحداث الرواية في ثلاثة فضاءات أساسية: الجريدة، الحانة، البيت. والحانة، على وجه الخصوص، كانت مسرحاً لحوارات معمقة، إذ تتكشف الأفكار تحت تأثير السكر، مما يعكس رؤية سردية تشير إلى هشاشة الموقف الفكري للشخصيات. كما أن اختيار الحانة جاء معبراً عن واقع المثقفين العراقيين آنذاك، حيث تختلط الجدية بالهروب، والوعي بالنقاش العبثي.

رابعاً: الحداثة الفنية

تمثل خمسة أصوات خطوة رائدة في تطور الرواية العراقية، إذ تخرج من إطار السرد المباشر والبسيط كما في روايات محمود أحمد السيد (مثل جلال خالد) أو ذنون أيوب (الدكتور إبراهيم، الرسائل المنسية). لكنها، رغم ذلك، لم تبلغ مرتبة الحداثة المكتملة كما عند جويس أو فوكنر، إذ بقيت مرتبطة بالبنية التقليدية للسرد العليم والزمن الخطي.

خامساً: غياب الشخصية الشيوعية

على الرغم من انتماء غائب طعمة فرمان للحزب الشيوعي، فإن الرواية تخلو من شخصية شيوعية صريحة. وهذا الخيار لا يُد نقصاً، بل ربما جاء مقصوداً ليتجنب الروائي إدخال شخصية أيديولوجية خشبية تحول النص إلى خطاب مباشر أو وعظي. أراد فرمان أن يركز على شريحة المثقفين من البرجوازية الصغيرة، غير المنتمين حزبياً، ليكشف عن ضياعهم ونقصانهم وافتقادهم للبوصلة السياسية. حتى الشخصيات الخمس – وكلهم عزاب (بما فيهم حميد الذي يدعي العزوبية) – جرى وضعهم ضمن إطار واحد لسهولة السيطرة السردية وكشف أزمتهم المشتركة.

سادساً: تقنية السرد

لم يسند فرمان مهمة السرد إلى الشخصيات، بل حافظ على حضور الراوي العليم الذي يمسك بخيوط الحكاية ويوجهها. وهذا الخيار يعكس أسلوب السرد السائد في الستينات، لكنه حرم النص من مساحة أوسع للاستبطان الداخلي للشخصيات ومنحها استقلالاً صوتياً كاملاً.

الخاتمة

إن رواية خمسة أصوات تقف في منطقة وسطى بين الرواية التقليدية الواقعية والرواية الحداثية، فهي تحمل ملامح تجريبية واضحة لكنها لا تنفصل عن القوالب الكلاسيكية. وتبقى أهميتها في كونها وثيقة فكرية وجمالية عن أزمة المثقف العراقي في الخمسينات، وصورة دقيقة عن ضياعه بين الأسئلة السياسية والتحولات الاجتماعية. إنها نص جدير بالدراسة، ليس فقط لأنه يمثل مرحلة مفصلية في الرواية العراقية، بل لأنه أيضاً يفتح أسئلة ما تزال راهنة عن وظيفة الأدب ودور المثقف في المجتمع.

شكرا منتدى البحرين الابداعي على هذه الفرصة الثمينة التي تناولت فيها اعمال الروائي الراحل غائب طعمة فرمان واتمنى ان اكون قد وفقت في ايصال ملامح تجربته الابداعية في محال السرد الروائي

عاجل !!