في قصة “مربية أطفال” لتشيخوف يقف القارئ أمام مشهد مألوف رغم بُعد الزمن والمكان، السيد يجلس في مكتبه ليحاسب المربية يوليا، لا ليعطيها حقها بل ليشعرها بأنها لا تستحقه وليثبت لنفسه سلطته عليها يخصم أياما لم تتغيب فيها، ويتهمها بتقصير لم ترتكبه، ويحملها أخطاء ليست لها علاقة بها، ومع ذلك تقف يوليا صامتة، خائفة، ضعيفة تشكر حتى على الظلم، وعندما يمنحها السيد راتبها الحقيقي لا يفعل ذلك كرفقٍ بها، بل ليختبر مقدار ضعفها فيكتشف أن ما هو أبشع من الظلم هو أن يكون المظلوم بلا صوت .
هذه القصة ليست مجرد حكاية عن مربية ورواتب وحسابات، إنها مرآة للواقع العراقي اليوم، بكل تعقيداته السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية، فالعراق منذ سنوات يقف في موقع “يوليا” بينما كثير ممن يتصدرون مشهد السلطة يمارسون دور “السيد” الذي يقرر من يستحق ومن لا يستحق، ومن يحسب عليه الخطأ ومن يحمل وزر غيره، ومن يعاقب ومن يعفى، وفق ميزان مصالح لا وفق ميزان عدالة .
سياسيا، يواجه العراقي مشهدا مشابها تحمّل الدولة والشعب تكلفة أخطاء لم يرتكبوها وتخصم من “راتب” الوطن حقوقه بحجة الاستقرار مرة، وبحجة الظروف مرة، وبحجة “ما مسجل عندنا” مرات كثيرة ملفات تتكدس، حكومات تتبدل، ووعود تتكرر بينما المواطن ما يزال يُحاسب على ما لا ذنب له فيه تماما كما خصم السيد أعيادا وآحادا وأيام مرض لم تكن يوليا مسؤولة عنها، يُخصم من عمر العراق سنوات طويلة بلا إصلاح حقيقي .
اقتصاديا، يعيش العراقي وضعا لا يختلف عن المربية التي كانت تقبل بالقليل لأنها لم تجد بديلاً، موارد تهدر، مشاريع تتعطل، فرص تنهب، والناس تقف في مكانها تشكر على الفتات، بلد غني كالعراق يدار وكأنه فقير، في حين لا أحد من أصحاب القرار يعترف بأن المشكلة ليست في الإمكانيات بل في آليات الحساب، وفي من يمسك دفتر الحساب .
ثقافيا، تتكرر المأساة نفسها بصور مختلفة يتم تهميش المثقف، إضعاف المؤسسات الثقافية، وتقليص الدعم للمواهب والفعاليات، وكأن الثقافة “عبء زائد” وليست عنصرا أساسيا في بناء المجتمع. يخضع المثقف في كثير من الأحيان لابتزاز معنوي إما أن يقبل، أو يستبدل بآخر، تماما كما قبلت يوليا خوفا من أن يقول لها السيد “لن أعطيك شيئا”.
أما رياضيا، فالمشهد لا يقل وضوحا. الأندية تبحث عن تمويل، اللاعبون يناضلون من أجل استحقاقاتهم، الاتحادات تتصارع، والجمهور يدفع الثمن، اللاعب الذي يرفع علم العراق في المحافل الدولية يُعامل أحيانا كأنه يوليا التي يجب أن تشكر حتى على الظلم، الوعود كثيرة، الدعم قليل، والنتائج تعتمد على جهد الأفراد لا على منظومة واحدة عادلة .
قصة يوليا ليست عن الضعف فقط، بل عن من يستغل هذا الضعف وتشيخوف لم يكتبها للسخرية، بل للتحذير حين يخرج صاحب السلطة عن العدل، لن يقف في وجهه إلا من يملك صوتا في القصة، كان السيد قادرا على أن يعيد المال لأنه أراد أن يكشف مدى ضعفها، لكن في الحياة لن يعيد أحد شيئا ما لم تُطالب الشعوب بحقوقها .
العراق اليوم بحاجة إلى أن يتحول من يوليا الخجولة إلى عراق قوي يعرف قيمته، لا ينتظر من أحد أن “يمن عليه” بحقوقه، ولا يشكر على ما يجب أن يكون له أصلا، بحاجة إلى ثقته بنفسه سياسيا، وانضباطه اقتصاديا، ووعيه ثقافيا، وإصراره رياضيا بحاجة إلى أن يقول للسيد “هذا حقي ولن تخصم منه شيئا”
فما أبشع أن يكون الإنسان ضعيفا في هذه الدنيا وما أبشع أن يكون وطن كامل في موقع مربية أطفال لا تملك إلا الصمت .
العراق … من يدفع الفاتورة ؟ / كتب / جعفر العلوجي




