أبجدية المكان وتماهيات الزمن .. رؤية زيد الشهيد في “أعوامي الليبية” / حمدي العطار

هيئة التحريرمنذ ساعة واحدةآخر تحديث :
أبجدية المكان وتماهيات الزمن .. رؤية زيد الشهيد في “أعوامي الليبية” / حمدي العطار

في عالم السرد، يظل المكان عند الروائي زيد الشهيد ليس مجرد خلفية للأحداث، بل بطلاً موازياً للشخصيات، وركيزة أساسية لبناء الدراما. فمن يقرأ رواياته يكتشف أن الفضاء المكاني لديه يكتسب قداسة خاصة، وأن أي رحلة يقوم بها تتحول إلى مشروع نص أدبي مكتمل، تلتقط عيناه فيه التفاصيل وتعيد صياغتها برؤية إبداعية تتجاوز حدود الوصف التقليدي.

في كتابه “أعوامي الليبية”، الصادر عن دار الينابيع للطباعة والنشر والتوزيع عام 2023، يقدّم زيد الشهيد نموذجاً مميزاً لأدب الرحلات، حيث يوظف خبرته السردية لرصد الأمكنة الليبية التي عايشها خلال فترة إقامته للعمل هناك. لم يكتف بتوثيق الشوارع والمعالم، بل دمج التراث والتاريخ والذاكرة، ليمنح القارئ لوحة متكاملة تمزج بين المشاهد الحية والاستدعاءات الأدبية المقارنة.

من طرابلس يبدأ السرد، فيصفها بأسلوبه المترف بالصور:

“في طرابلس تنتشر الساحات/الميادين، وتتناسل الشوارع متفرعة، متداخلة كأمعاء تبني هندسة تجمع خارطة القلاع التي تزخر بها المدن الساحلية، وتتباهى بأزياء الحضارة المعاصرة. طرابلس تدفع بجذورها إلى أعماق الزمن السحيق، كذا تعلو ازدهاء لملامسة جبهة الألق” (ص10).

يدرك الشهيد أن جمال الأمكنة يفوق قدرة الكلمات على الإحاطة به، فيعترف قائلاً:

“ولي اعتراف بأن الذي توجهت إليه ذائقتي وصورته عين قلمي لا يشكل إلا اليسير مما تزخر به هذه العاصمة البهية، وحسبي أن لي عذراً بذلك، فأنا أجيئها زائراً تحمله أكف الدهش، وتسرقه لحظات الزمن الوامض، الخطيف” (ص10).

وفي حضور البحر، يتجلى الحس الشعري للكاتب، فيصفه كأنه حبر الطبيعة الأزلي:

“هو البحر.. الامتداد اللا يحد: الأمواه التي تغرينا بشذريتها حتى ليظنها المتطلع البسيط أن اللون المصطبغة به نابع من جوف سحيق… ضربة من ضربات فرشة الطبيعة على اللوحة الخلقية” (ص11).

يقع الكتاب في 152 صفحة من القطع المتوسط، ويضم قسمين يحملان عناوين شاعرية معبرة، مؤكداً مرة أخرى أن زيد الشهيد يمتلك قدرة نادرة على جعل المكان كائناً حياً في النص، وأن رحلاته ليست جغرافية فحسب، بل هي أيضاً زمنية ووجدانية.

خاتمة

“أعوامي الليبية” ليس مجرد تدوين لرحلة، بل هو إعادة اكتشاف للمكان بوصفه حاملاً للذاكرة ومحرّضاً على التأمل. زيد الشهيد يكتب بعين المسافر وروح الروائي، فيجعل من طرابلس وساحلها وبحرها قصيدة سردية، تضع أدب الرحلات في سياق فني رفيع، حيث يتماهى الزمن مع المكان، ويتحوّل النص إلى مرآة لدهشة الاكتشاف ودفء الحنين.

 

عاجل !!