مسافة الكتاب بين السارد والناقد: قراءة نقدية مسافاتيّة في المجموعة القصصية الموسومة( غبار الرفوف ) للكاتب الأستاذ الدكتور مصطفى لطيف عارف /   قراءة /  د.مسلم عباس الطعان

هيئة التحرير25 أغسطس 2025آخر تحديث :
مسافة الكتاب بين السارد والناقد: قراءة نقدية مسافاتيّة في المجموعة القصصية الموسومة( غبار الرفوف ) للكاتب الأستاذ الدكتور مصطفى لطيف عارف /   قراءة /  د.مسلم عباس الطعان

بنشاط منقطع النظير يحتفي الكتاب الورقي المهدد بالانقراض والذي أصبح بالنسبة للكثير من المثقفين أو أشباه المثقفين مجرد تحفة ذات ديكور جمالي يوضع في مكتبة بيتية ليلتهمه الغبار، و ليس العيون المتعطشة لشرب ماء المعرفة، أقول يحتفي الكتاب الورقي بمن يحيي ذكراه و يجعله ذاكرة جماليةAesthetic Memory تصبح مرجعا مهما و رصينا ينهل منه طلاب المعرفة والعلم و الثقافة النقدية والابداعية بكافة أشكالها.

من جعلنا نسوق تلك المقدمة الوجيزة هو كتاب السارد و الناقد الأكاديمي الأستاذ الدكتور مصطفى لطيف عارف الموسوم ( غبار الرفوف: قصص قصيرة2022) الصادر بطبعة أنيقة و جديدة عن دار أمارجي السومرية للطباعة والنشر التي يديرها بنجاح و مهنية عالية الناشر و الروائي المهم الأستاذ عبد الزهرة عمارة، و يضم الكتاب ٤٥ نصا سرديا موزعة ما بين القصة القصيرةو القصة القصيرة جداً، و قد وصف الكاتب الأستاذ زيد الشهيد، في مقالة له في صحيفة طريق الشعب، أسلوب الدكتور مصطفى عارف في كتابته لفن القصة القصيرة جدا قائلاً:

“يميل القاص الدكتور مصطفى لطيف عارف في مجموعة ( غبار الرفوف ) إلى جعل بعض قصصه من نوع القصص القصيرة جداً، تلك التي تتناول موضوعاً واحداً و تميل إلى التعامل مع شخصية واحدة، لا تتسع مساحة القصة و هيكليتها لحركة و تفاعل شخصية ثانية و ثالثة و أكثر هذا إلى جانب عنصر المفارقة”( طريق الشعب/2023). هذا من ناحية البنية الفنية لذلك الجنس السردي الوجيز الذي غالبا ما تجسد فلسفته شخصية واحدة تتحدث بلغة مكثفة تقترب من لغة قصيدة النثر القصيرة أو ما أطلق عليه بقصيدة الومضة و غالبا ما تركب القصة القصيرة جداً مركب المفارقة التي يعتقد الكاتب زيد الشهيد بأنها “تشكّل صدمة للقارئ، و تجعله يشعر عند الانتهاء من قراءة القصة، بحذق الكاتب و براعته في كبح جماح خيال القارئ، الذي يريد التجوّل في فضاء قص طويل و أطول”( المصدر: زيد الشهيد: قصص ( غبار الرفوف) لمصطفى لطيف عارف..إغتيال بلد!/ صحيفة طريق الشعب/ الطريق الثقافي 2023).

إنَّ لفن القصة القصيرة ذاكرة مكثفة لحدث ما، و ذلك الحدث الواقعي يشكل البؤرة المركزية التي ينطلق منها الخطاب السردي القصير، أي القصة القصيرة Short Story، و قد كتب القاص و الروائي المبدع و الكاتب الموسوعي الأستاذ نعيم عبد مهلهل مقالة رصينة عن ( غبار الرفوف) جاء فيها:

(“غبار الرفوف” في طبيعتها حكايات لبساطة الحياة، كتبها مصطفى العارف لتكون شهادة ملوّنة و فاعلة لما يحدث في متغيرات حياتنا و فيها الكثير من مفارقات العولمة، و ما كان قبلها. إنّه في “غبار الرفوف” يؤسس لحلم العين حين ترصد و تنقل بأمانة ما تراه و تخلله و تنقله إلى القارئ لمتعة القراءة و الإفادة و تلك هي رسالة المبدع إذا أراد أن يكون. هذه الرسالة التي يريد فيها القاص أن يعيش التحولات بين أن يكون معلماً و عاشقاً و مؤرخاً و جندياً و قائداً و ناقداً فنيّاً كما في قصته الجميلة ” الصدمة”/ المصدر: صحيفة الزمان/ألف ياء/2022).

و بوصفه قارئاً جمالياً خبيراً بخفايا و أسرار السرد بكافة أشكاله، يلقي الكاتب نعيم عبد مهلهل الضوء على مسافة المتعة الجمالية Distance of Aesthetic Joy التى تحدثها سرديات الدكتور مصطفى لطيف عارف في ذائقة و ذات المتلقي و التي يجد فيها القارئ الجمالي Aesthetic Reader ضالته المنشودة، فيقول:

(متعة القصة لدى مصطفى العارف، هي متعة بساطة الروح حين تعيش بلهجة السرد عبر السهل الممتنع الذي يمتلك أجفاننا تشاهد و تخزن على الوورد، و تعيد ترتيب ما شاهدته و تسكبها على شكل قصة، و بمجموعها أصبحت أحداثنا التي تعكس وقائع حياتنا و بعنوان “غبار الرفوف”/ صحيفة الزمان/ ألف ياء/ 2022).

في مشغله السردي، عُرِفَ الدكتور مصطفى عارف، بلجوءه لكتاب الذاكرة ليدوّن في صفحاته تفاصيل اليومي الشعبي بحكم عشقه للشخصيات الشعبية التي يلتقيها في أسواق مدينته الناصرية أو يصيخ السمع لحكاياتها عند جلوسه في مقاهيها الشعبية، و بوصفه سارداً يسجل الواقع تسجيلاً توثيقياً خالصاً، و يدخله في بنية و ثيمة خطابه السردي القصير، ولا يضيف لزاده السردي أملاح وبهارات الواقعية السحرية الماركيزية، و لكونه أيضاً ناقداً يضع ذلك السرد على الطاولة النقدية، و يقدمه كزاد جمالي و ثقافي ليشرك معه القارئ-المثقف- الناقد في تشريح البنية السردية بالطريقة التي أستفزت و تستفز فيها ذائقته الجمالية من أجل قراءة الواقع المر، و هنا دعونا نتأمل و نقرأ بتمعن المقطع التالي من قصة بعنوان ( اغتيال بائع السگائر) الذي أحتل مساحة الغلاف الخارجي للمجموعة حيث يقول الكاتب:

(لفت نظري رجل كبير تجاوز السبعين عاما في بناية سوق شعبية على جانب الرصيف، يجلس على كرسي حديد قديم متآكل، مرتديا قبعة لإتقاء حرارة الشمس اللاهبة. يضع نظارة للقراءة على أنفه الكبير، يبدأ الجلوس بقراءة الصحف اليومية. ركنت سيارتي على الجانب الأيمن من الشارع الفرعي، و إقتربت منه، لم يحس بوجودي على الإطلاق، و فوجئت بقطرات دم على الأرض، و أشياء مبعثرة: قلم حبر، نظارة قراءة، قبعة مثقوبة، مجموعة من السگائر متناثرة هنا و هناك، و كتاب كبير بعنوان الحرية. سألت أحد رجال الأمن: ماذا حصل؟ و ما هذه الدماء؟ أجاب بلا مبالاة: أغتيل بائع السگائر).

باستخدامه لمرآة الواقع المر، يجعلنا الكاتب ندرك قسوة الدراما التراجيدية التي يمر بها الإنسان المثقف عندما يغادر موقعه الحقيقي ليفترش الرصيف بمهنة لم يحلم بها من قبل من أجل لقمة العيش التي قد تقوده إلى موت في غير أوانه.

لو حاولنا أن نسقط المعنى الجمالي و الفلسفي لمقولتنا: ( الكتاب ذاكرة، و الذاكرة كتاب) على المقطع السردي أعلاه لوجدنا أصابع السارد الجمالي والناقد الاجتماعي تعملان معاً من أجل إزاحة الغبار عن رفوف الذاكرة قبل رفوف الكتب، فالذاكرة كتاب شخصي أو جمعي تخزن في رفوفه حكايات الواقع اليومي التي تحتاج لفعل السارد الذي ينقلها من كتاب غير ملموس و مرئي إلى كتاب ملموس و مرئي، و يحتاج ذلك الكتاب أيضاً إلى تدخل الناقد الإجتماعي Social Critic الذي يتقن فهم و تفكيك أسرار لعبة الحواس السردية Narrative Game of Senses و إزاحة غبار ركود الوعي، و التعالي على البيئة الشعبية المنتجة و المستهلكة الحقيقية للبضاعة السردية و جمالياتها.إن سارد القصة هو حامل وناقل جمالي للحدث الواقعي رغم مرارته و قتامته، فبائع السگائر هو االمثقف-البطل-الضحية، الذي يصفه القاص بأنه رجل قد تجاوز السبعين من العمر يجلس على الرصيف في سوق شعبية في حر القيظ القاتل مرتديا قبعة تقيه حرارة الشمس اللاهبة، و يضع نظارة القراءة على أنفه الكبير، و يشرع بقراءة الصحف اليومية. هنا يكشف الدكتور مصطفى لطيف عارف عن فعل الكتاب الجمالي للذاكرة السردية  Narrative Memory الذي يسطر تفاصيله على الورق  حين يشرع بمشروع كتابه الورقي، والمسافة الجمالية في القصة تجعلنا ندرك بأن الرجل السبعيني، البطل الضحية، هو مثقف ينتمي أجيال سبقتنا رضعت حليب المعرفة من أثداء الثقافة الورقية، لكن هذا الرجل المسن الذي جار عليه زمنه هو صورة من سرديات الحصار القاهر الذي مر به العراقيون في التسعينيات، و التجاهل والجحود والإقصاء و التهميش لمنتجي الجمال و الثقافة والإبداع من قبل الحكومات المتعاقبة بعد 2003، فضلا عن خفافيش الفكر الظلامي التي تعادي أصحاب الفكر التنويري، فالرجل الذي يواصل كفاحه اليومي و يبيع السگائر من أجل قوت عياله، لن يتخلى عن كفاحه المعرفي والثقافي لكيلا يجعل من كتاب حياته فريسة لغبار الظلمة، بيد أن وحوش الظلام تصر على إراقة حبر قلمه و إسقاط نظارة قراءته، و إراقة دمه عبر ثقب قبعة رأسه برصاصات حاقدة على كتاب الحرية الذي كان مبتهجا بين يديه . ثمة مرآة جمالية Aesthetic Mirror أخرى تجعلنا نرى بأن صورة موت الكاتب ليست واقعية، بل إنها صورة موت مجازي Metaphorical Death للإنسان المثقف الذي يتم اغتيال حريته عبر ثقب رأس ذاكرته، أو اغتيال كتاب وجوده الثقافي الذي يعرّي الجهل و يكشف عورات صانعيه.عبر هذا السيناريو الواقعي المدهش الذي يرسمه الكاتب، ندرك بأن المسافة ما بين السارد و الناقد باتت مسافة جمالية، لان الكاتب عندما انتهى من فعله السردي سلم المهمة للناقد الذي عرى الفعل الظلامي و كشف حقيقته، لأن الغبار الإجتماعي الذي يأكل من جرف المعرفة، و يحجب نورها لا بد من إيقافه و إزإحته بفعل جمالي سردي يعيد لنا توازن الرؤيا، و كذلك إن الغبار المتراكم و المتكدس على رفوف الذاكرة عدو لدود للرؤيا المعرفية و الثقافية،وهذا ما يسعى الكاتب إلى تحقيقه عبر منجز كتابه السردي. ثمّةَ رؤيا أخرى يجسدها الكتاب السردي وهو الإستفزاز الجمالي للمسافة النقديةCritical Distance لدى كاتب آخر يركب ذات المركب القصصي، بمعنى كيف يتعامل القاص الآخر مع تلك المجموعة وهي تجدد النشاط لديه لإزالة غبار التردد لديه ليتماهى مع الخطاب السردي الجديد، عبر إستعادة نقاء الذاكرة و تخليصها مما علق منها من غبار أليكتروني أطلقته صحراء التكنولوجيا الحديثة حيث يقول القاص و الأكاديمي الدكتور حسن البصام بالحرف الواحد:( إن ما قرأته في المجموعة القصصية “غبار الرفوف” قد نفض هو الآخر الغبار عن ذاكرتي و أعادني إلى بواكير السرديات الواقعية التي كحلت بها عيوننا و لم تغادر ذاكرتنا إشراقاتها أبداً./ المصدر:بصرياثا: واقعية السرد النقدية في قصص ” غبار الرفوف” للقاص والناقد د.مصطفى لطيف عارف 2023). في النهاية،  لا بُدّ لنا من القول بأن المسافة الجمالية Aesthetic Distance،  ما بين سرديات الكاتب الواقعي الأستاذ الدكتور مصطفى العارف و فعله المتواصل بوصفه ناقدا إجتماعيا متسلحاً بعدة الوعي النقدي الأكاديمي، تجعلنا نفهم و ندرك بأنَّ الخطاب السردي الذي بين أيدينا قد أعاد لكتاب الذاكره وهجه الجمالي بعد أن أزاح عن كاهله غطاء الغبار، و هكذا فإنّ بصره السردي الحاد جعله راصداً لأحداث الواقع، و بصيرة وعيه الجمالي و الثقافي جعلته ناقداً إجتماعياً و ثقافياً لظاهرة تكلس العقول و أستسلامها لأكداس غبار الجهل و الخدر الأعمى و الإكتفاء بقشور الزاد المعرفي المغلف بسيلفون الوجبات الثقافية السريعة التي لا تغني و لاتسمن من جوع.

*ذاكرة و كتاب: مسافاتية النص: جماليات الذاكرة و شعرية القراءة ( مشروع كتاب نقدي معد للطباعة و النشر سيصدر قريباً بإذنه تعالى)

 

عاجل !!