النحت من أجل الأمل / فاروق يوسف  

هيئة التحرير16 أغسطس 2025آخر تحديث :
النحت من أجل الأمل / فاروق يوسف  

 يشيد الفنان علي جبر عمله النحتي على أساس تركيبي تتوازن من خلاله قوتا الداخل والخارج في سياق رؤية ملحمية وأن كانت مفرداتها قليلة، غير أنها قوبة الإيحاء. بمعنى أن ما ينبثق من داخل الكتلة يلتحم بما يُضاف إليها من الخارج في علاقة لا يمكن تجزئتها. في ذلك يتخذ الفنان موقفا وسطا بين الكتلة وجوارها، بين الموضوع ومحيطه.

بين التأثير البصري والإيقاع النفسي. ذلك ما يجعله قريبا من فكر الفنون المعاصرة القائم على تحييد العمل الفني في صلته بالعاطفة على الرغم من أن الفنان يعالج موضوعات إنسانية حساسة تتصل مباشرة بالوضع البشري. بما ينطوي عليه ذلك الوضع من مشكلات وأسئلة وجودية.

القارب، الطائر، الهلال والسمكة أربعة مفردات تعيد الاعتبار إلى الإنسان باعتباره مركز الكون في بيئة، يكشف الفنان عن معرفة عميقة بما تخبئه من أسرار وما تشتبك به من قوى سحرية تكتنفها الكثير من الألغاز. منحوتات علي جبر لا تكتفي بما تحدثه من متعة وما يسببه جمالها من شعور بالراحة البصرية. هناك جانب حكائي لا يمر بخفة على الرغم من أنه لا يمنع العمل الفني من معالجة شؤونه الشكلية مستقلا ومتحررا من هيمنة السرد. غير أن مساحة ما يُفكر فيه تظل مأهولة بالكثير من النداءات الخفية. كل واحد منها يجر وراءه سلسلة من الحكايات التي لا تعود إلى زمن بعينه. فالفنان لم يسع إلى أن يقيس قيمة عمله على أساس مدى اقترابه من انجاز هوية وطنية لفنه.

حين يستحضر علي جبر تلك المفردات فإنه ينفتح بطريقة مختزلة ودقيقة على ذاكرته. ذاكرة الإنسان السومري الذي سبقه بآلاف السنوات وكان نبؤتها وذاكرة الإنسان المعاصر بكفاحه الذي لم يمنع البيئة من أن تتركه حائرا، مرتبكا في مواجهة هلال أيامه العصيبة. مثلما يرى جبر بعين لذائذية فإنه يفكر بعقل، فكرته عن الحياة صارت تزداد تشاؤما بسبب غياب الإنسجام بين الإنسان وبيئته. وهنا بالضبط يقع عمق الالتزام  الذي يشعر المرء أمامه بأن الفنان قد انحاز إلى قضية، يشكل الهم السياسي الجزء الأكبر منها. تشف منحوتات علي جبر عن حياة عظيمة لم تعد إلا ذكرى. تلك هي الذكرى التي يحاول أن يهبها صورا لكي يحتفي بها.    

ليس علي جبر فنانا حكائيا. هو لا يروي وقائع بقدر ما يطارد معان رمزية، يسعى من خلالها إلى بث الروح في حياة يأمل في أنها لا تزال قابلة للعيش أو أنها لا تزال مأهولة بعاطفة استثنائية، هي عاطفة بشر صنعوا مستقبلهم الجمالي من غير أن يفكروا في أنهم سيتحولون إلى قوة ماض جمالي غامض. كل مفردات الفنان مستعارة من ذلك الفردوس الذي خلقه العراقيون الذين كانوا على يقين من أنهم قد عثروا على الطريق التي تؤدي إلى الأبد. يا لها من مغامرة، يشعر المرء فيها بالوحشة. ذلك ما استفاد منه الفنان وهو يضع أمامنا أعمالا، لا يشكل غموضها سببا للهروب منها أو نبذها بل على العكس تماما سيشعر المرء بأن ذلك الغموض هو السر الذي يوثق صلته بتلك الأعمال.

يستعيد علي جبر مفردات فردوس مفقود. فردوس صارت استعادته أشبه بالحلم. ذلك حلم لا يكتمل. وهو ما دفع النحات إلى الثناء على  النقصان كما لو أنه لازمة حياة. تبدو أعماله كما لو أنها لم تكتمل. ذلك فعل مقصود. ليست الاسطورة بل الحكاية هي ما لم تكتمل. لا يهم إن جاء السرد ناقصا. ما يهم الفنان أنه من خلال منحوتاته قد بعث الروح في حياة يحتاجها العراقيون لكي يكتشفوا من خلالها قدرتهم على ابتكار طرق جديدة للأمل. أحلى ما في فن علي جبر أنه يترفع على اليأس على الرغم من أن مفرداته تنطق بألم الحقيقة.

 

 

 

عاجل !!