شراكة إستراتيجية بين مالي وروسيا تفاقم عزلة الجزائر

هيئة التحرير28 يوليو 2025آخر تحديث :
شراكة إستراتيجية بين مالي وروسيا تفاقم عزلة الجزائر

باماكو وموسكو توقعان حزمة اتفاقيات تعاون في عدة قطاعات في خطوة تثير قلق الجزائر المتوجسة من مزيد انحسار نفوذها في المنطقة

تتهم مالي الجزائر بتوفير ملاذ آمن للمتمردين الطوارق وتسهيل تحركاتهم عبر الحدود المشتركة والتفاوض مع وفود عن الانفصاليين دون إشراكها

شملت الاتفاقيات التي أُبرمت خلال المحادثات بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وغويتا اتفاقية تحدد أسس العلاقات بين البلدين

تتماشى هذه الشراكة مع استراتيجية روسيا الأوسع لتعزيز نفوذها في إفريقيا خاصة في الدول الغنية بالموارد الطبيعية والتي تعاني من التفكك الجيوسياسي

تركز موسكو بشكل كبير على التعاون العسكري والفني مع مالي لمكافحة الإرهاب وتعزيز القدرات القتالية للجيش المالي وقوات إنفاذ القانون

 

 

وكالات / النهار

 وقعت باماكو وموسكو خلال الزيارة التي بدأها رئيس المجلس العسكري في مالي عاصمي غويتا إلى روسيا نهاية الأسبوع الماضي وتستمر إلى الخميس، حزمة من الاتفاقية في عدة قطاعات من أبزرها الطاقة، في خطوة من شأنها أن تضاعف ارتباك الجزائر المتوجسة من تفاقم عزلتها في محيطها الأفريقي، في ظل تصدع علاقاتها مع دول الساحل.

وشملت الاتفاقيات التي أُبرمت خلال المحادثات بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وغويتا اتفاقية تحدد أسس العلاقات بين البلدين وشراكة إستراتيجية جديدة لاستكشاف سبل استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، وفقا لبيان صادر عن “الكرملين”.

ووقع وزير التنمية الاقتصادية الروسي مكسيم ريشيتنيكوف ونظيره المالي وزير الاقتصاد والمالية ألوسيني سانو الاتفاقية الحكومية لإنشاء اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي التجاري والعلمي التقني.

وتتماشى هذه الشراكة مع استراتيجية روسيا الأوسع لتعزيز نفوذها في إفريقيا خاصة في الدول الغنية بالموارد الطبيعية والتي تعاني من التفكك الجيوسياسي.

وتركز موسكو بشكل كبير على التعاون العسكري والفني مع مالي لمكافحة الإرهاب وتعزيز القدرات القتالية للجيش المالي وقوات إنفاذ القانون.

ويبعث التعاون المتنامي بين روسيا ومالي برسائل تفيد بتوجه باماكو إلى فك ارتباطها مع الجزائر، في ذروة التوتر بين البلدين، إثر الأزمة الدبلوماسية بعد التصعيد الجزائري وتهويل واقعة إسقاط طائرة استطلاع مسيرة تابعة للجيش المالي في أبريل/نيسان الماضي.

وقامت مالي وحليفتاها النيجر وبوركينا فاسو حينها باستدعاء سفرائها لدى الجزائر التي استدعت بدورها سفيريها لدى باماكو ونيامي. وأثارت الأزمة قلق المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ”إيكواس” من تصاعد التوترات، وسط مخاوف من أن يؤدي استمرار الانقسام إلى صراع مسلح بين الجارتين.

وتتهم مالي الجزائر بتوفير ملاذ آمن للمتمردين الطوارق وتسهيل تحركاتهم عبر الحدود المشتركة والتفاوض مع وفود عن الانفصاليين دون إشراكها، بينما ترى السلطات الجزائرية أن باماكو تبالغ في اتهاماتها وتسعى لفرض سيطرتها بالقوة.

 

ويُشير بعض المحللين إلى غياب التنسيق الأمني والسياسي بين البلدين كسبب لتفاقم الأزمة، خاصة بعد انسحاب فرنسا من المنطقة في عام 2022، وتوقعات بأن تملأ الجزائر هذا الفراغ، وهو ما أخفقت فيه الأخيرة بسبب سياستها الخارجية الخاطئة وارتباك دبلوماسيتها.

ويثير التقارب بين مالي وروسيا مخاوف جزائرية من تغول نفوذ أطراف خارجية على حدودها الجنوبية، في وقت تسعى فيه الجزائر للحفاظ على دورها كوسيط إقليمي، رغم فشلها في تسوية أغلب الأزمات التي توسطت فيها.

وعلى الرغم من الوجود الروسي، لم يتم حل المشاكل الأمنية العميقة في مالي، بل شهدت البلاد تصاعدًا في العنف ضد المدنيين من قبل المرتزقة والقوات الأمنية المالية، فيما يتوقع أن تؤدي هذه الشراكة إلى مزيد من العزلة لباماكو عن الغرب وتقليل المساعدات الدولية.

ويعكس تنامي التعاون الروسي المالي تحولاً استراتيجيًا للأخيرة بعيدًا عن الغرب نحو موسكو، مدفوعًا بالبحث عن حلول أمنية واقتصادية دون قيود سياسية، في وقت تسعى فيه روسيا لتعزيز نفوذها الجيوسياسي والاقتصادي في إفريقيا، خاصة في ظل العزلة الدولية التي تواجهها بسبب غزوها لأوكرانيا.

ويعكس تنامي دور “فيلق إفريقيا”، المجموعة العسكرية الروسية التي شُكلت لتحل محل قوة “فاغنر” بعد مغادرتها مالي، تزايد نفوذ موسكو في منطقة الساحل الأفريقي، بالتوازي مع مساعيها لتوسيع حضورها الاقتصادي، مدفوعة برغبتها في استغلال الثروات الطبيعية.

وفي أوائل يونيو/حزيران، أعلنت مجموعة فاغنر التي شكلها يفغيني بريغوزين انسحابها من مالي وتعويضها بـ”فيلق إفريقيا”.

ويعمل “فيلق افريقيا” على تأمين المصالح الروسية ومواجهة النفوذ الغربي وتأمين الموارد الاستراتيجية في أفريقيا، بينما يتم تجنيد عناصره بشكل أساسي من مقاتلي فاغنر السابقين، بالإضافة إلى جنسيات أفريقية وسورية

وبعد سنوات من الصمت والتكتيك الهادئ، انتقلت موسكو إلى التصريح بطموحاتها. وقال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف “نعتزم تعزيز تعاوننا مع الدول الإفريقية في كل المجالات”، مشيرا تحديدا إلى “المجالات الحساسة المتعلقة بالدفاع والأمن”.

وتعلن وسائل الإعلام الروسية عن تواجدها في بوركينا فاسو وليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى والنيجر. وأدرجت مؤسسة “راند”، وهي معهد أمني أميركي، السودان في القائمة.

وكانت موزمبيق أيضا على القائمة في السابق، لكن “فاغنر” التي استُدعيت لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” فيها فشلت فشلا ذريعا وتكبّدت خسائر فادحة.

ويكمن الفرق بين منظمتي المرتزقة في مسألة الولاء. فقد انفصل يفغيني بريغوزين، رجل الأعمال المثير للجدل والعنيف، تدريجيا عن الكرملين حتى تحدى الرئيس فلاديمير بوتين علنا، قبل أن يلقى حتفه في حادث تحطم طائرة أثار تساؤلات في أغسطس/آب 2023. وخضعت مجموعته بعد ذلك لعملية تفكيك وإعادة تنظيم دقيقة، أما “فيلق إفريقيا”، فيخضع لإشراف وزارة الدفاع الروسية.

 

ويشير الباحث المستقل نيكولاس شكايدزي المقيم في تبليسي إلى أن “الكرملين بذل جهودا كبيرة لتفكيك قيادة فاغنر، وتأكيد سيطرته العمودية عليها، واستيعاب هياكلها”.

ويضيف “إن استخدام سياسة الإنكار القابل للتصديق” التي اتبعتها موسكو للتنصل من انتهاكات المرتزقة “تغيّرت وصارت موسكو تتبنّى وتعترف علنا بحضورها ودورها”.

من جانبه، يرى كريستوفر فوكنر من الكلية العسكرية البحرية الأميركية أن هذا التحول “خطوة رمزية وعملية في آن واحد. هذا يُبعد شركة فاغنر عن مالي لتركيز وجودها في جمهورية إفريقيا الوسطى”، حيث تتمتع روسيا بحضور قوي.

ويضيف أن “هذا يُعزز سيطرة موسكو على فيلق إفريقيا”، مع أن روسيا كما يقول “تبقي بعض الغموض حتى مع فرض رقابة صارمة على مرتزقتها”.

وقرر المجلس العسكري في مالي بعد انقلابي 2020 و2021 إنهاء تحالفه مع القوة الاستعمارية الفرنسية السابقة والتوجه إلى روسيا، مستعينا بمرتزقة فاغنر الذين قال إنهم يعملون كمدربين لقواته.

وفي الواقع، كان يُفترض أن يساعد هؤلاء الجيش في محاربة الجماعات الجهادية التابعة لتنظيمي القاعدة وداعش اللذين خلفت هجماتهما المستمرة آلاف القتلى في المنطقة منذ أكثر من عشر سنوات.

لكن باستثناء السيطرة على مدينة كيدال في الشمال وانتزاعها من فصائل انفصالية مسلحة، لم ينجح الروس في تحسين الوضع، بل نهبوا الموارد المعدنية المحلية.

ويرى الماليون أن التمييز بين الشركتين العسكريتين الروسيتين مصطنع. ويقول بكري سامبي، مدير معهد تمبكتو للأبحاث في داكار، “يرى الرأي العام في ذلك مجرد تغيير في الاسم دون أي تطور إيجابي… فانسحاب فاغنر، في ظل وضع أمني كارثي، دليل على عدم فعالية استعانة أنظمة المنطقة بمصادر خارجية لإحلال الأمن”.

وعلاوة على ذلك، تُدين منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية والأمم المتحدة أساليب فاغنر الوحشية في تقاريرها، فقد كشف تحقيق أجرته مجموعة “القصص المحظورة” نُشر قبل أسبوع عن خطف وحجز وتعذيب “مئات المدنيين في القواعد السابقة للأمم المتحدة وفي معسكرات مشتركة مع الجيش المالي”.

ومن هذا المنظور، لا يتوقع أحد أي تغيير حقيقي، إذ يصف نيكولاس شكايز أساليب مكافحة التمرد الوحشية، مثل المجازر والعقاب الجماعي، بأنها “ممنهجة”.

وتنوه مؤسسة راند بأن غالبية عناصر “فيلق إفريقيا” كانوا يعملون في صفوف فاغنر، بعضهم عادوا من الجبهة الأوكرانية ونسبة كبيرة منهم من المجرمين الذين جُندوا في السجون الروسية.

وتقول بيفرلي أوتشينغ، المحللة المقيمة في داكار من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومقره واشنطن، إنه لم يصدر أي بيان رسمي يوضح إذا كانت “الحكومة المالية ستدفع ثمن هذه الخدمات أم أنها جزء من اتفاقية أمنية ثنائية”.

لكنها تؤكد أنه “إذا كانت هناك مدفوعات تعاقدية، فستذهب مباشرة إلى وزارة الدفاع الروسية”. وتخلص الخبيرة إلى أن روسيا “ستستمر في إرسال شحنات من المعدات والأسلحة، وهي تنظر إلى منطقة الساحل على أنها استراتيجية لبسط نفوذها في مواجهة النفوذ الغربي”.

وقال الكرملين إن روسيا تتطلع لتعزيز التعاون مع الدول الأفريقية، وهو ما يشمل التعاون في مجالات حساسة مثل الدفاع والأمن، حيث تسعى موسكو إلى تعزيز حضورها السياسي والاقتصادي، والعسكري في إطار جهودها لاستعادة دورها كقوة عالمية منافسة للنفوذ الغربي والصيني في القارة السمراء.

وتمثل إفريقيا ساحة استراتيجية مهمة لروسيا في سعيها لتأكيد موقعها كقوة عالمية متعددة الأقطاب. وبينما تعتمد روسيا على أدوات متنوعة تشمل الاقتصاد، السلاح، والدبلوماسية، فإن مستقبل نفوذها في القارة يبقى مرهونًا بقدرتها على تقديم شراكات متوازنة ومستدامة مقارنةً بمنافسيها التقليديين.

وأعلنت مجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة الأسبوع الماضي أنها ستغادر مالي بعد مساعدة المجلس العسكري هناك في قتاله ضد متشددين. لكن قوات فيلق أفريقيا وهي قوة شبه عسكرية يسيطر عليها الكرملين، قالت إنها ستبقى في البلد الواقع في غرب أفريقيا بعد مغادرة فاغنر. حيث تروج روسيا لنفسها كشريك في محاربة الإرهاب، وهو ما تستفيد منه لتعزيز علاقاتها الأمنية مع دول الساحل الإفريقي.

وعند سؤال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف عن انعكاسات هذا على دور روسيا في أفريقيا، قال إن “الوجود الروسي في أفريقيا آخذ في التنامي، نتطلع حقا لتطوير تفاعلنا مع الدول الأفريقية بشكل شامل، مع التركيز بصورة أساسية على الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية”.

وأضاف “هذا يتوافق ويمتد أيضا إلى مجالات حساسة مثل الدفاع والأمن. وفي هذا الصدد، ستواصل روسيا أيضا التفاعل والتعاون مع الدول الأفريقية”.

وتسعى موسكو للحصول على دعم الدول الإفريقية في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة، لتعزيز شرعيتها الدولية وتخفيف العزلة التي فُرضت عليها بعد أزمة أوكرانيا. وهي من أكبر موردي السلاح للدول الإفريقية، مثل الجزائر وأنغولا ومصر. كما تقدم التدريب العسكري والدعم الفني.

وينظر الغرب بقلق إلى تنامي الدور الأمني لروسيا في أجزاء من القارة، وهو ما يشمل دولا مثل مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وغينيا الاستوائية، وذلك على حساب فرنسا والولايات المتحدة.

وتأسس فيلق أفريقيا الروسي بدعم من وزارة الدفاع الروسية بعد أن قاد مؤسس فاغنر يفجيني بريجوجن والقيادي في المجموعة دميتري أوتكين تمردا فاشلا ضد قيادة الجيش الروسي في يونيو/حزيران 2023، وقتلا بعد شهرين في حادث تحطم طائرة.

واطلعت رويترز على عدد من المحادثات عبر تيليغرام بين عناصر روس بهذه القوات تشير إلى أن ما بين 70 و80 بالمئة تقريبا من فيلق أفريقيا أعضاء سابقون في مجموعة فاغنر.

وبحسب المحللين فإن روسيا تعتمد في خطابها على ما يسمى بـ”دبلوماسية الذاكرة” التي تستغل المشاعر المتبقية المناهضة للاستعمار، ومع توسع موطئ قدمها في أفريقيا – لا سيما في منطقة الساحل الغنية بالمعادن والتي تعاني من الانقلابات المتكررة والتمرد المسلح والتمرد المتطرف – تعمل المشاعر المعادية للغرب، على هندسة خروج القوات الغربية من مساحات واسعة من الأراضي، والكرملين هو الأوفر حظا لملء الفراغ الذي يتركونه.

وساحل العاج وتشاد هما الأحدث في سلسلة من المستعمرات الفرنسية السابقة في غرب ووسط أفريقيا التي تطالب بانسحاب القوات الفرنسية والقوات الغربية الأخرى من أراضيها، وتسير في طريق النيجر ومالي وبوركينا فاسو.

وقد لجأت تلك الدول الثلاث، التي تسيطر عليها المجالس العسكرية الآن، إلى روسيا للحصول على الدعم الأمني، متجاهلة دعوات شركائها الغربيين السابقين للعودة السريعة إلى الحكم المدني.

وذكرت صحيفة الغارديان البريطانية في مايو/أيار القادم، أن المسؤولين الأميركيين اتفقوا مع زعماء النيجر على انسحاب تدريجي للقوات الأميركية من النيجر، والذي سيتم في أقرب وقت ممكن خلال الأشهر المقبلة.

وتعد موسكو أيضًا شريكًا مرغوبًا فيه من قبل المستعمرات السابقة غير الفرنسية مثل غينيا الاستوائية، التي تستضيف ما يقدر بنحو 200 مدرب عسكري نشرتهم روسيا في نوفمبر لحماية رئاسة الدولة الواقعة في وسط إفريقيا. ويحكم زعيمها الاستبدادي الرئيس تيودورو أوبيانج (82 عاما) الدولة الصغيرة الغنية بالنفط لمدة 45 عاما بعد انقلاب عام 1979.

وقالت الصحيفة إن موسكو تحرص على توسيع نطاق نفوذها عالميا لإيجاد المزيد من أسواق التصدير والوصول إلى الموارد الطبيعية. ويقول بعض المراقبين إن أفريقيا تمثل الفرصة المثالية لتنفيذ هذه الأفكار. ويتم توجيه التأثير من خلال “فيلق أفريقيا”، ويعتقد أنه سمي على اسم جماعة ألمانية في شمال أفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية.

عاجل !!