ما لم يره الغريب: كلكامش لشوقي كريم حسن وادانة التاريخ / قراءة / الدكتور/عبد المعطي النعماني

هيئة التحرير11 يونيو 2025آخر تحديث :
ما لم يره الغريب: كلكامش لشوقي كريم حسن وادانة التاريخ / قراءة / الدكتور/عبد المعطي النعماني

متأخرة وصلتني مسرحية(مالم يره الغريب جلجامش)وظلت لأيام طويلة

تنتظر دورها في التفحص والقراءة، وبخاصة وإني مغرم بملحمة جلجامش وقد كشفت عن بعض من مستورها في دراسات نشرت في مجلات عربية رصينه، دون تردد وجدت

نفسي اتأمل غلافها،و اقرأ العنوان

الغريب بعض،مالذي لم يره الغريب

كلكامش،ولم صار غريباً، والمدهش في الامر أني قرأت مقدمة الدكتور حسين سرمك حسن، لاكثر من مرة  محاولاً فهم بعض المسارات المسرحية ،وقد عرفت من خلال هاتيك المقدمة ان الكاتب شوقي كريم حسن، قد كتبها ايام كان في السجن السياسي، وكان هذا واضحاً داخل سياقات المسرحية ذاتها،تأتي مسرحية “ما لم يره الغريب” ضمن سلسلة الأعمال المسرحية العراقية الطليعية التي أعادت تأويل التراث الرافديني، لا بوصفه ماضياً سحيقاً، بل كمخزون رؤيوي ينبض بأسئلة الحاضر. وقد امتازت هذه المسرحية بالجمع بين التحليل الفلسفي العميق لشخصية جلجامش والرؤية الشعرية السياسية التي تستبطن القهر الإنساني وأساطير الزيف التي تسيّر الوعي الجمعي.كتب الناقد الكبير الراحل حسين سرمك حسن مقدمة للمسرحية، مُبرزاً قيمتها الفلسفية والجمالية، ومُعتبرًا إياها أول محاولة درامية جادة لتفكيك صورة جلجامش كدكتاتور مغلف بأسطورة، وليس بطلاً ملحمياً مطلقًا كما درجت القراءات التقليدية. تعتمد المسرحية على الحوار الجدلي الداخلي، وتستثمر الفضاء الميتافيزيقي للحوار بين جلجامش وأوتو نابشتم. تبدأ المسرحية من نقطة الانكسار: موت إنكيدو، وتتوالى الأحداث في شكل استبصارات نفسية وانفعالات وجودية. لا يظهر جلجامش في المسرحية كملك منتصر، بل كرجل تائه، خاسر، محطم، يبحث عن أجوبة لا يملك لها مفاتيح. يتوزع النص بين المونولوجات الطويلة، والتراكيب الشعرية المكثفة، والكورال الذي يعلّق على الأحداث ويخلق توازنًا بين الفعل المسرحي والطرح الفكري.في هذا العمل، لا يُقدَّم جلجامش كـ”ملك ثلثاه إله وثلثه إنسان”، بل يُنتزع من هالة القداسة ويُطرح بوصفه إنسانًا مهزومًا، سجين فكرة الخلود. يطارده السؤال: “لماذا أموت؟”، لكنه لا يسأل: “لماذا ظلمت؟ لماذا قتلت؟ لماذا خذلت صديقي؟”. المسرحية تقف على لحظة التحول الداخلي في شخصية جلجامش، إذ تتلاشى فيه صورة الفاتح، ليظهر التائه الذي خُدع بأسطورة اسمها “الخلود”. هنا، يبرز دور أوتو نابشتم الذي لا يمنحه العشبة، بل يضعه أمام خيبته:

“خلودك ليس في العشبة يا جلجامش… بل في ما تهدمه، لا في ما تبنيه…”

بهذا، تنقض المسرحية أسطورة الخلود البيولوجي، وتطرح بديلًا عنها: الخلود الإنساني القائم على المعنى، والفعل، والمسؤولية. في سياق المسرحية، يظهر الخلود ليس كنعمة، بل كوهم يُساق له الطغاة كي يبقوا في السلطة. إنها “عشبة الخديعة” التي يسعى وراءها كل من يحاول إدامة سلطته، أو تمديد أثره، دون أن يدرك أنه يهرب من موته لا من الموت.كلكامش في المسرحية يُقابل بوح قاسٍ من أوتو نابشتم:“خلودك كان في إنكيدو… ومذ مات، متّ معه…”وتؤكد المسرحية أن الأنظمة الطاغية أيضًا تسعى للخلود الزائف، من خلال المآثر، التماثيل، والنصوص، لكنها لا تدرك أن الشعوب لا تخلّد من ظلمها، بل من خدمها وارتقى بها.استخدم شوقي كريم حسن لغة شعرية عالية مشبعة بالتجريد الصوفي والصرخة السياسية. فالمسرحية ليست فقط رحلة جلجامش، بل هي أيضًا صرخة إنسانية ضد الطغيان، وضد تزييف الذاكرة.يتحول أوتو نابشتم من حكيمٍ قديم إلى رمز الوعي المُخفي الذي يواجه كل من يحاول القفز على قوانين الحياة. بينما يتحول جلجامش إلى مثال للسلطة المهزومة أمام قدرها.

تُعد “ما لم يره الغريب” فتحًا مسرحيًا في قراءة الموروث الملحمي. فقد سبقت الأعمال الأخرى التي تناولت جلجامش، مثل مسرحيات الفريد فرج أو أنطوان غطاس صعب، في إعادة تسييس النص الأسطوري، وتحويله إلى نقد للراهن، وتحليل للبنية النفسية للحاكم، عبر تكنيك درامي فلسفي لا يهادن، ولا يتوسل بالأسطورة، بل يعرّيها.الغريب لم يرَ الخلود، بل رأى الخوف.ورأى أن جلجامش، كما كل الطغاة، يبحث عن الخلود هربًا من الحقيقة، لا بحثًا عنها.لكن المسرحية تقول:“ما لم يره الغريب… هو الحقيقة. وما لم يسمعه… هو صوته الداخلي الذي صمت طويلاً.”وهكذا تكون المسرحية ليس فقط إعادة كتابة للأسطورة، بل كشفًا فلسفيًا للزيف السياسي والأخلاقي الذي تصنعه الأساطير حين تخرج من رحم الحكمة وتدخل جيب السلطة.

عاجل !!