في عالم السرد المعاصر، تبرز تجارب روائية تتجاوز الحدود التقليدية للأنواع الأدبية، وتقدم للقارئ نصوصا هجينة تمزج بين الواقعي والتخييلي، بين السرد والوصف، وبين أدب الرحلات والشعر. ومن بين هذه التجارب اللافتة، تتألق رواية “الإبحار إلى كالكوتا – رحلة البحار سيمو” للروائي حسن البحار، التي تشكل فسيفساء أدبية متعددة الأصوات والأنواع، يتحول فيها البحر إلى فضاء رمزي وواقعي، وتجربة الإبحار إلى مسرح يعكس هموم الذات والوجود الإنساني.
*المزج السردي
يمتلك حسن البحار القدرة الفنية على ترويض الأنواع الأدبية الثلاثة: الرواية، وأدب الرحلات، وقصيدة النثر، ليصوغ من خلالها عالما أدبيًا فريدا ينبض بالحياة والتجربة. وهو، إذ يستمد مادته من مهنته كبحار، يصوغ سردية بحرية تتكئ على واقعية المكان وزمن الرحلة، وتغلف بتأملات داخلية حافلة بالصور الشعرية والانفعالات الذاتية.
الرواية ليست تسجيل لأحداث بحرية، بل هي توثيق وجودي لتجربة السفر والاندماج مع ثقافات المدن الساحلية، حيث تروى تفاصيل دقيقة عن النساء، والطعام، والنبيذ، والأسواق، والعلاقات الاجتماعية، متشابكة مع أنثروبولوجيا الموانئ. يقول في أحد المقاطع الشعرية:
“وجبة الإنسان المهمة هي الإحساس بالراحة، كذلك أول الصباح تحت الشمس، طاولة الإفطار، وقبة السماء الزرقاء والبحر أمامك، تشم رائحته… شعور رائع. لكل البحارة: القهوة، والجبن، والزيتون، والشاي، والكيك.” (ص102)
*أدب البحر بوصفه فضاء
حين تمنع السفينة من الرسو في الميناء بسبب “تشابه الأسماء”، نجد البحار – الراوي – يلوذ إلى التأمل والكتابة هربا من القلق والرتابة. الكتابة تصبح هنا فعلا وجوديا ومتنفسا داخليا، يوازي متاعب الجسد واضطرابات الأمعاء. تتجلّى في هذا الجزء تقنية التداعي الحر والحوار الذاتي:
“أحاور نفسي أكثر من الآخرين، حاجتي ملحة للسفر، ظاهرة الحنين في الإبحار لذة لا يعرفها إلا البحار… لا أظن أن هناك من يفهمني… لجأت إلى الكتابة حتى أتعب وأشعر بالنعاس.” (ص76)
*جمال ومعاناة البحارة
يتأرجح السرد بين الانبهار بجمال الحياة البحرية وبين مرارة الواقع. تأخر دخول الميناء بسبب البيروقراطية يولّد حالة من الإحباط واليأس، لكنها لا تخلو من روح الدعابة والسخرية الذاتية. يعبر الكاتب عن حال الباخرة والبحّارة بمجازات لاذعة:
“الباخرة السائبة في البحر مثل حياة بلا ماء، حالات اليأس والخذلان في نفوس البحارة في تزايد.” (ص77)
ويمضي الراوي ليعبر عن الحنين للماضي، وافتقاده لحياة العزوبية واللهو، فيتذكر امرأة أحبها في شبابه قائلًا لها:
“انقسمت حياتي على نصفين، نصف لك، والآخر لك.”
*ثيمة “تشابه الأسماء” كعقبة سردية
تتخذ الرواية من واقعة بيروقراطية بسيطة – “تشابه الأسماء” – عقدةً سردية تعيق سير الأحداث. اعتقال رئيس المهندسين بسبب الاشتباه في اسمه يضيف طبقة من التوتر، ويكشف عن هشاشة الإنسان أمام النظام. تنتهي الأزمة باعتذار رسمي بعد ساعات من الانتظار، لكن آثارها النفسية تبقى حاضرة في السرد:
“عاد ضابط التحقيق ومعه أوراق رئيس المهندسين وعبارات الاعتذار واضحة: غير مقصود بالقيد. أوراقه سليمة.” (ص104)
*نموذج سردي متميزا
تمثل رواية “الإبحار إلى كالكوتا – رحلة البحار سيمو” نموذجا سرديا مميزا لمزج الأجناس الأدبية، حيث تتحول الرحلة إلى استعارة كبرى للاغتراب والحنين والبحث عن المعنى. استطاع حسن البحار أن يكتب نصا متداخلاً في أنواعه، صادقا في شعوره، شعريا في لغته، فكان البحر فيه ليس مجرد مكان، بل مرآة للذات ولأسئلتها الوجودية المفتوحة.