
للقاص والاعلامي عبد الواحد محسن مجموعة قصصية صادرة عن دار ينابيع بسوريا ، عام 2012 تحت عنوان “رجل على كتف الليل”(*).. وهي مجموعة قصصية تتضمن نوعاً من خصوصية مرحلة لجيل كانت الفلسفة الوجودية وأفكار “الفنتازيا” مسيطرة على جُل أعمالهم..بينما هذه المجموعة احتفظت بخصوصية الفعل القصصي لكاتبها.. انها قصص لا تدخل الى الحدث بكونه فعلاً إخبارياً ، ولا بكونه قيمة سرد تقنية فقط ، إنما يتحمل الفعل السردي للقصص محمولين ؛ هما الواقعة المجردة والواقعة المفننة. بمعنى ان ثمة قص في القصة الواحدة على أساس انه قص لقص فانتازيا واقعية، فهو القص المزدوج الذي يصيّر للفعل القصصي أهمية تنحصر في ربط الفهم القرائي بقدرة القصة على ادارة الحدث ، بعد استكمال الشرط اللغوي لها ، مما يوجه نحو العناية بمحفزات المحيط الصائغ لبيئة الحدث ، ومحفزات الجوانب النفسية الدافعة للأبطال للقيام بالأفعال ، ثم وصف الإشكال الإنساني لمعاقد القصص بطريقة تخدم الشد والتشويق والتناسق الوجداني والفكري لمتابعي قراءة التلذذ. في مثل هذه الحالة ستفي موضوعة الحدث ما على القصة من انجاز للقيمة المعنوية بنموذجيها الفني والثيمي.. لقد ضمت المجموعة خمساً وعشرين قصة.. يهتم القص فيها ـ كلها ـ بتبرير رؤى الكاتب ليحتوى بها أحداث قصصه.. وأكرر ان قصصه مزدوجة السرد ؛ فهي تعطينا مظهراً اسطورياً ومتناً ثيمياً ، كأن القاص يتعمد القص الموازي ؛ الذي يساوي بالأهميته بين القيمة الفنية والقيمة الثيمية.. ولو جئنا الى الجنبة التطبيقية فسنرى القص يشكل اللغة واللغة تشكل المحتوى على النحو الآتي: 
أولاً : قصة تداعيات شهريار والحوار
ان تقنية الحوار لقصة “تداعيات شهريار، ص5” لها أسرار خاصة ببيئة السرد ، تنبعث عبر اشكالية الفارق المنطقي بين الحال المُفكر به والحال المُدرك الحقيقي للقص ، وما يمكنني استقراءه من هذه القصة هو ان كاتبها صنع شخصية اسطورية هي “شهريار المزيف” ، الذي يطارد شبح “شهرزاد”؛ الأنثى المستحيلة ، بينما المحتوى الفنتازي اتخذ لنفسه وسيطاً خاصاً هو التحول الزمني لسلوك وموجودات الكوائن البشرية. وقد أوغل الكاتب بتقنية الحوار ، كأنما صار الحوار طريقة السرد الأهم في قص رؤاه هنا.. لكن الحقيقة الملموسة ان الكاتب قد خرج بمقطوعة تجمع بين الوجودية والرومانسية ؛ نثيثها يحقيق أمرين ؛ الأول ؛ المتعة والصدق للكاتب قيماً وفناً ، الثاني ؛ يغالي بالالتزام الاخلاقي . لنقرأ ونرى : “لحظة صمت.. اختفى طيف شهرزاد الذي كان متجسداً على المقعد بجانبه.. شعر بدفق غريب من الاندفاع نحو حياة جديدة..لا يدري أهي نشوة الكؤوس التي احتساها..أم ذلك الحديث الوهمي ، الذي عاشه في مخيلته الآن..لا يدري..إلّا انه قرر شيئاً ما..وحين ارتشف ما تبقى في كأسه الأخيرة همّ بالنهوض فلم يستطع..كان جسمه ثقيلاً ورأسه يدور.. قال : كم أتمنى أن أنام في هذه الحديقة كأي قط أليف”(قصص رجل على كتف الليل ، ص9).
سنعد هذا المشد (المقطع) ممثلاً أولياً لهذه القصة وقصص أُخرى لاحقة ، ويمكننا تعيينه كخلفية ديكور مهيمن ، له سطوة تشتغل عبره مدركات صناعة الثيم!.. يمكننا هذا الفرض ان نتبني المنظومة الآتية :
1ـ الابتعاد عن صيغة الحوار للمشد أعلاه يعني انه يُنوّع الفعل التقني للإيفاء بمتطلبات القص العام، لأجل ان لا يغلّب عنصر قص ما على آخر في الصياغة والدلالة.
2ـ ان المشد (المقطع) المتقدم حفظ لنا فرضنا الأول. أي الجمع بين الأُسطورة والحقيقة ، فالأُسطورة هي (قصة شهريار وشهرزاد) والحقيقة هي ؛ (ان تلك العواطف والخيبات هي حالات لكائن بشري مخذول ، يحسد القط كونه ينعم بالسلام بلا أُمنيات ولا أوجاع).
3ـ ان هذا الضياع والخذلان جيء بهما بطريق اللاجدوى الفلسفية ، التي تتبناها الفلسفة الوجودية، جعلها القاص عبد الواحد محسن وِجْداً فنتازياً مليئا بأوهام الرومانس وأوهام الرؤى المثالية لإنسانية الحب.
4ـ ان الوجهين للقطعة المجتزأة من القصة تبث لنا وجهين من الدلالات ، هما الدلالة الخاصة برؤى الكاتب كونه ممثلاً للبطل ؛ وهي وجه بسيط للأنوال الجمالية ، كونها لا تتعدَ مظهرَ كلامِ محب متوجع ، اما الرؤية العامة فهي تحيل الى آفاق التشتت والضياع الوجداني والفكري لمرحلة حياة القصة وأبطالها ، وهي مرحلة فيها صراعات في غاية الفوضى والتصدع الاجتماعي والاخلاقي .. ربما هي مراحل الانكسارات والفقدانات من سنة 1980 حتى سنة 2003.
5ـ ان السرد استثمر ـ بلا تخطيط ـ أُسلوب شاعرية القص ، كأنه يكتب قصتين متداخلتين ؛ واحدة نثرية خالصة ، وثانية شعرية سردية ملوثة بالقص.
ثانياً : قصة الشجرة ؛ احتمالات قدرية
في قصة (الشجرة ص60 من المحموعة القصصية) نموذج من القص ، يمتثل لرؤى متقدمة كثيراً على المستوى الثيمي ، كونها تستقي رؤى الكاتب من جنبتي الاحتمالات وأفكار ما بعد المعاصرة.. هذان الأمران يعطيان للاحتمالات مؤولات ، وللقدرية مؤولات ؛ متضافرة بحسب رؤيتنا السابقة ؛ ” قص في قص الفنتازيا” ، المبشر به في مفتتح المقالة..لنتابع:
[نمت تلك الشجرة وصارت حقيقة شامخة.. يراها كل يوم.. يستأنس بها عندما يجافيه النوم.. عندما ضاق البيت.. زحف الاسمنت عليها وسد منافذ الماء الى جذورها فانقطعت عنها الحياة… مع هذا ظلت العصافير تأوي إليها… حتى هو… لم ينقطع عن مناجاة الشجرة… في النهار يرش عليها الماء… يوما ما رأى آفة مرضية تمكنتْ منها… فكر بطريقة ينقذها… ويريحها من هذه الآفة .. توقفت سيارة كبيرة تحمل أشجاراً مقطعة.. ناداه السائق.
أتريد ان نقطعها لكَ..
أجاب بلا شعور : اقطعوها..
قال السائق : ولكن سنأخذها لنا..
اجاب : خذوها] ـ القصص ص60، ص61
عند التبصر بدالات ومضمرات هذه القصة سنلاحظ الآتي :
1ـ تمرُّ الشجرة بثلاث مراحل ؛ هي : النمو ، انقطاع الماء ، الموت.
2ـ للبطل ثلاثة أحوال ؛ هي : التأمل ، محاولة المعالجة ، الاستسلام للفقدان.
3ـ يمكننا ان نستشرف منها ثلاثة تأويلات ؛ هي :
ـ الشجرة والبطل سعيدان بوجودهما المحمل بأماني الديمومة الحيوية.
ـ الشجرة والبطل يتشبثان بالوجود حتى لو كان بلا معنى ، عبر وجود العصافير والسقي برش الماء ومحاولة الانقاذ من آفة المرضية.
ـ الشجرة والبطل يضطران للتخلي عن محيطهما (فضاء ثيم قطع الشجرة) عبر استسلام البطل. 4ـ للقصة ثلاثة أقدار ؛ هي :
ـ قدرية النمو بلا تدخل بشري في زرعها ، كونها شجرة برّية في مكان سكني حضري مدني. ـ قدرية الحتمية الحضارية ، كون السمنت ؛ حضارة البناء المعاصر ، له قدر ان يزحف على منافذ الماء ويسدها.
ـ قدرية التلاشي في ما يسمى لاجدوى ولا معنى الوجود.
5ـ يمكننا ان نجس ثلاثة احتمالات للتأويل الأبعد من المظهر الكتابي ، فالقارئ قد يؤول القصة على النحو الآتي :
ـ يوجد للقصة مظهر تدويني يدل على حيرة وجدانية وخذلان قدري في التوازي بين مصير الشجرة وطبيعة النفس البشرية.
ـ للقصة قص تأويلي يمتثل لطرح نوع من القص البيئي عبر حيرة وتبعثر أفكار ورؤى ومرجعيات الناس الفكرية والاجتماعية ، خاصة لذوي الحس المرهف المنتج للفنون ؛ كونها جميعاً من منتجات ما بعد المعاصرة ، التي تنحسر الى معلومات عن الموت والدمار ، دون اهتمام حقيقي بالقيم الوجدانية للوجود الزماني والمكاني ، وعدم الموازنة بين عناصر الوجود الأرضي الصانع للحضارة الانسانية!.
ثالثاً : البحث عن حورية ايقاع
ان التكرار المقصود لأي مشهد فني سيوحي بايقاع منغَّم للجملة أو الفكرة أو جزء من متن ؛ حتى ان لم يقصده منتجه. وفي قصة البحث عن حورية يبدأ الإيقاع من كلمة (البحث) ، كونه سيكون تكراراً لمحاولات التنقل والتفكر والتدوين ، خاصة ان كان (البحث) عن معنى او مثال منتقى كالحورية. وبظننا ان الإيقاع في (البحث عن حورية ، ص65) سيحقق لذة سماع وبصر وتخيل.. لنحاول جس ذلك بأن نقتطع جملاً لها وظيفة الإيقاع متنوع الدلالات ، وعلى النحو الآتي :
* [حين التقت عيناه بعينيها توقفت لغة الكلام] ـ القصص ، ص65
* [لحظات وراح يبحث عنها في الزحام] ـ القصص ، ص65
* [تظهر أمامه على المرآة] ـ القصص ، ص65
* [في الحافلة نظر إليها ونظرت إليه] ـ القصص ، ص65
* [في البيت أحضر ألواناً زيتية وفرشاة..وراح يرسم بفطرة عاشق] ـ القصص ، ص66
* [كان يستمتع يومياً برسم ملامح بسيطة منها ويضيف لوناً هنا .. وظلا هناك] ـ القصص ، ص66
* [حمل في اليوم الآخر الصورة (اللوحة) .. راح يدور … باحثاً بين الوجوه .. عن فتاة تشبه
الصورة التي يحملها يقول ان اسمها حورية.ص68.
يُرى في تلك السلسلة من ثلاثية (النظر ، الرسم ، البحث) :
1ـ انها تبدأ ببحث عبر البصر وتُبأر برسم عبر البصر والموهبة ، كـ (بحث ، بصر ، صوت). مما يدل على دائرية السرد والايقاع.
2ـ في أي تفصيل ومتابعة سنجد التقاربَ الجملي يحمل دلالات حركة وانتقال من حال الى آخر وهذا بائن بوضوح في حركة كل جملة بحيث تهيء لحركة جديدة للجملة التي تليها.
3ـ ان تماسك المشد في المنظومة الجملية يرتقي ليكون تنغيماً فكرياً ووجدانياً ؛ من البدء حتى المنتهى.
4ـ ان الرؤية الوجدانية لم تفترق عن الرؤية البصرية ، انما هما متساندتان لأجل تكوين نص فني يوازن بين الفنتازيا كتخيل والدلالات كوقع جمالي دلالي.
5ـ تحيل القصة ـ عبر جملها المقتطعة في مقولنا هذا ، مضافاً إليها جسد (متن) القصة كلها ، الى فعل عقلاني تقني يقرّب الجمالي الى الثقافي ، وقد يُسهم ـ أيضاً ـ بتقريب الواقع الى الفنتازيا ليماثل ما يسمى حديثاً بـ (الواقع الفنتازي) ، كونه حصيلة الاختلاط النوعي بين الفنون.




