ندى الماضي.. جفاف الحاضر في رواية (دروب الشاكرية) / قراءة /  اسماعيل ابراهيم عبد

هيئة التحرير30 نوفمبر 2025آخر تحديث :
ندى الماضي.. جفاف الحاضر في رواية (دروب الشاكرية) / قراءة /  اسماعيل ابراهيم عبد

تمهيد

عند قراءة ومتابعة رواية “دروب الشاعرية” للكاتب أحمد عواد الخزاعي يواجهنا العديد من المظاهر اللصيقة بهذه الرواية منها غلبة الثيمات على التقنيات، اختلاط اللغة الفصحى باللهجة العامية،  وكذلك سنلاحظ هذا التشبع بالماضي ممثل بريسان ورحلته من الهور الى بغداد ثم موته بنهاية بين الحلم والكابوس.. ومما يوصف الرواية بكونها رواية شعبية هو اهتمامها بالطبقات الشعبية (ريفية ومدنية) وانحيازها الواضح للحزب التقدمي المناصر للكادحين.

اهم مرتكزات النص

أولاً : ثيم وقيم

ان هذه الرواية منتمية للأدب الشعبي، وبسبب توجهها هذا لن تحيد بثيمها عن القيم المُثلى في العمل والصداقات والصدق الإنساني للسلوك والمشاعر.. هكذا هم جميع شخصيات الرواية ، وجميع أفعالهم لا تخرج عن السمو الأخلاقي إلا قليلاً مما هو مسموح به في نهاية الخمسينات والستينيات كلها!. خاصة العلاقات النسوية بين الأعراق مختلفة الديانات ، فقد كانت الشاكرية ببغداد مجمع من السكان الطيبين المعوزين من عمال بُسطاء ومُلّاك رحماء، وأصحاب محلات صغار.. كل هؤلاء لن يمثلوا اشكالا لا للقارئ ولا للروائي ، انما الاشكالية الحقيقية في ملكية وعمال وأملاك اليهودي شاؤول أفندي.. فمثلاً عند استقبال جميل وزوجته عفيفة ، لريسان العامل عند شاؤول افندي جرى الآتي: ” سأله جميل عن الشاكرية واهلها .. ربت على فخذه محاولا ادخاله بجو الحديث وتجاوز خجله:                                   ـ انت كيف حالك ياريسان؟

ـ أنا بخير .. الحمد لله على كل شيء .. شاؤول افندي باع معظم أملاكه وهاجر من العراق الى بريطانيا، وبقيت بلا عمل…. تأسف جميل.. قال .. سمعتُ ان هناك بعض الأعمال المسلحة يقوم بها بعض الشيوعيين في بغداد.

تساءل ريسان بخوف:

ـ أخشى ان يكون أبو رحاب طرفاً فيها؟

ـ أبو رحاب مستعد لفعل أي شيء من أجل الحزب)” “104

نلاحظ ان النص  له مساس كبير بأخلاقيات القيم المعهودة عند ناس الشاكرية، فأن لديهم قدر كبير من التفاهم ، وفي العودة الى صفحات الرواية سنجد الرفقة والتآخي الحميم بين ريسان وعائلة جميل وكذلك العلاقات الاجتماعية والانسانية والحزبية مع ابي رحاب ، احد كوادر الحزب الشيوعي في الخمسينيات .. كما ان عصب الحياة الاقتصادية التي تتمركز حول شاؤول افندي هنا وفي مفاصل كثيرة من الرواية ، لم تكن علاقات استغلال ولم يكن ثمة وعي مختلف عليه بين المالك والعمال.. كون التمايز الطبقي لم يكن بوعي حاد لتلك العلاقات بين صاحب العمل والعمال. المهم ان ثمة موضوعات (ثيمات)، برفقة القيم آنذاك بمقدورنا تلخيصها على النحو الآتي: (علاقات عائلية + علاقات صداقات + علاقات عمل+ علاقات حزبية) هذه العلاقات تتضافر مع بعضها كموضوعات روائية، وتتآلف مع بعضها لتشكل مجتمعاً لا طبقياً ، كما انها تتعاضد لتكون قيما من الخلق والانسجام والتعاون فضلا عن الانسجام الجاذب للوعي لاحقاً.  بمعنى ان المتن ـ هنا ـ هو الموضوعات ، وتشكيلها للمعاني الواسعة الخاص بـ (العائلة والصداقة والعمل والتحزب) هذا التشكل يمثل البنى التي صنعت القيم السامية للمرحلة التي تحدثت عنها الرواية.

ثانياً : اتجاهات

من الاتجاهات التي بلورتها الرواية هو اتجاه وطنية المنتمين لليهودية والمسيحية ، وهما الديانتان اللتان بقيتا دون الهجرة التامة ولا البقاء التام. فهجرة اليهودي شاؤول افندي سبقتها عمليات سلب ونهب منظم وبتشجيع حكومي انذاك، لأجل ان يفكر العراقيون بأن (يهود العراق) هم خلاصة صهيونية، والرواية تريد تغيير هذا الخلل بالوعي عبر لمحة ذكية تلك هي ان (شاؤول) بعد المخاطر الكبيرة التي واجهته، هاجر الى بريطانيا وليس لفلسطين.. وبمقاربة أخرى جُعلت (جانيت) المسيحية ابنة بغداد زوجة غير شرعية لريسان ابن العمارة.. كبادرة من قبل الكاتب الخزاعي لتقديم نموذج مسيحي عراقي وطني.. ثمة اتجاه آخر هو التحزب السامي الواعي يمثله ابو رحاب وثمة اتجاه التعاضد الاجتماعي،  وهو يتجه الى توليف مجتمع مثالي يتبادل التخادم بين العوائل والاصدقاء لتحقيق ثلاثة طقوس هي ؛ (العمل ونبذ البطالة + التزاوج وتطوير العائلة + تأمين السكن لأجل عيش كريم).. برأيي ان تلك الاتجاهات قد تتعارض مع اتجاهات ظاهرة السوء ، مدمرة السلوك؛ مثالها  القتل بلا مبرر، النهب والسرقة بلا واعز من ضمير ، التنمر على الاقليات بمساعدة الحكومات المتلاحقة، زرع الفرقة والفتنة بين الناس بإثارة الاطماع والطائفية.       ثمة اتجاهات أخرى خصتها الرواية بالاهتمام منها، هجرة ذوي الكفاءات ، هجرة ذوي الأموال ، هجرة ذوي الرأي المخالف، هجرة الفقراء.                           يمكن ان ألخص قضية الاتجاهات ـ حسب الرواية ـ بمبدئين هما  (سوء ادارة الدولة + التماسك الاجتماعي كند للخراب المتعمد وغير المتعمد).

ثالثاً : زمنية الروي

الزمن في أي رواية مسألة حساسة جداً وبرأيي ان زمن رواية دروب الشاكرية هو زمن فني مقنن على هيئة توالي متراجع بصورة لولبية كونه ينتقل من الخمسينيات الى التسعينيات الى الالفينيات وحتى الزمن الحالي ، بطريقة مطردة ذات تبدلات قليلة عن نظامها التراجعي.. هذا الزمن احتمى بالآتي :                                1ـ وضع عمر الابطال بطريقة تتماشى مع عمر التاريخ السياسي للبلاد.             2ـ وائم بين حركة السرد في نقل الوقائع مع حركة التغيير الحضاري المتماشي مع تطور البيئة الاقتصادية العراقية.                                                         3ـ اتخذ الكاتب احمد عواد الخزاعي من اشكالات التحولات النفسية مراحل للتغيرات الانسانية على مستوى طبيعة بطل الرواية ريسان تحديداً.                   باعتقادي ان الانحياز لزمنية وعمر البطل ريسان من ثم لولده سلام جاء تلبية لرغبة الوفاء التي خرجت من بوح الكاتب بشكل عفوي.

رابعاً : اللغة ؛ روياً ، حكياً

يبدو ان الكاتب احمد عواد الخزاعي قد خَبِرَ لغة السرد عبر تجارب كتابية سابقة ، وأنه حاول تبسيط اللغة كثيرا بظنه ان روايته رواية شعبية منحازة في انتمائها الايديولوجي.. لكنني أسجل على لغته الروائية ملاحظات بسيطة لا تقلل من جهده بقدر التنبيه الى بعض الهنات ؛ التي أهمها:

قلة الاهتمام بالوصف للزمان والمكان المتعلق بروحية الحدث والمكان فضلا عن التجاهل العمدي للهيئات الشكلية للأشخاص. اعتقد ان ابتعاد الكاتب عن وصف الاشخاص بدقة لانه يعرفهم ويتحاشى وصفهم لتجنب الاحراج.                       تبسيط اللغة وكثرة العامية فيها قربها من الحكايات كثيرا ولم يتح للحالين ؛ الطبيعة النفسية للشخوص والنبوءات التنويرية للمستقبل بطريقة الحكمة الفلسفية.

خامساً : استراحة تأمل

لنتأمل بمعتة ـ بلا شروط ـ النص الآتي للأسطر الاخيرة من الرواية، لعلنا به نرثي أنفسنا:

نام ريسان تلك الليلة بلا وجع وقد غمره شعور عارم بالسلام والسكينة .. استيقظ قبل ان يتنفس الفجر بلحظات. أحس بخدر يسري في قدميه ويديه، استجمع قواه محاولاً قلب جسده المنهك ، ليكون باتجاه النافذة المجاورة لسريره، الّا ان خدر أعضائه منعه من ذلك، قرر ان يدير رأسه باتجاهها. ريح خفيفة تداعب أشجار حديقة المنزل، ابتسم لذلك المشهد . حدث نفسه (كون هسه كاعد بمشحوف واشم ريحة الهور).

شاهدها عند الباب تقف بوقار، ارهبه وقوفها هناك، اقتربت منه ، تراءى له وجهها المستدير وعمامتها السوداء، وقد اختفت الدماء من فمها، مدت يدها نحوه، نهض من سريره، أمسك بأطراف عباءتها كما كان يفعل وهو صغير، تناول كف يدها ، قبَّلهُ، تشبث به، أزال دفؤهُ الخدر من جسده، سارا معاً مبتعديْن عن المكان، أراد أن يلتفت نحو جسده المسجى على سريره.. لكنه قرر المضي في رحلته الأخيرة ص 130.

 

عاجل !!