المملكة تنقل استراتيجياتها الأمنية المحلية إلى واجهة النقاش الدولي.
من الشراكة إلى التأثير
احتضان المغرب لاجتماعات الأنتربول بمراكش يبرز مكانته المتقدمة في التعاون الأمني الدولي، ويعكس الثقة المتزايدة في نموذجه الشرطي وقدرته على مواجهة الجريمة العابرة للحدود في سياق عالمي تتصاعد فيه التهديدات المعقدة.
مراكش (المغرب) – تُعدّ استضافة المغرب لأشغال الدورة الثالثة والتسعين للجمعية العامة لمنظمة الأنتربول في مراكش الاثنين، حدثاً غير مسبوق في تاريخ علاقات المملكة مع المنظمات الأمنية الدولية، ليس فقط بسبب الحجم الكبير للمشاركين ولا أهمية الملفات المطروحة للنقاش، بل لأن هذا الموعد الدولي جاء ليكرّس تحوّلاً هادئاً وعميقاً في موقع المغرب داخل منظومة الأمن العالمي.
وتكشّف خلف الكلمات البروتوكولية، واللقاءات الثنائية، والاهتمام الإعلامي الكبير، مسار استراتيجي تبنيه الرباط منذ سنوات يقوم على توظيف الأمن كأداة دبلوماسية، وكقوة ناعمة، وكأحد أعمدة سياستها الخارجية، خصوصاً في محيط إقليمي يعجّ بالتوترات الأمنية وبظواهر الجريمة المنظمة والإرهاب والهجرة غير النظامية، ما يجعل من الاستقرار الأمني اليوم عملة نادرة ومطلوبة لدى الكثير من الشركاء الدوليين.
وشدّد المدير العام للأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني المغربي عبد اللطيف حموشي في كلمته الافتتاحية على أن اختيار المغرب لاحتضان هذا الحدث ليس مجرد صدفة أو قرار تقني صادر عن الأمانة العامة للأنتربول، بل هو اعتراف عالمي بدور المملكة في هندسة منظومة الأمن الجماعي.
ويتعامل المغرب، وفق رؤية حموشي، مع الأمن باعتباره «نعمة جماعية ومسؤولية مشتركة» تُمارس داخلياً بالموازاة مع الانفتاح على الشراكات الدولية والتنسيق العابر للحدود.
المغرب لم يعد يكتفي بالتفاعل مع المنظومة الأمنية العالمية، بل أصبح من صانعيها، مسهِماً في تحديثها وتطوير أدواتها واقتراح مسارات جديدة لعملها
ويرى مراقبون أن هذه الرسالة، وإن بدت بسيطة في ظاهرها، فإنها تعبّر عن فلسفة أمنية متكاملة تراكمت عبر التجارب، من خلال تحديث شامل للمؤسسة الأمنية، وتطوير أدوات جمع وتحليل المعلومات، وتعزيز استقلالية الوظيفة الشرطية، وربط الأمن بحقوق الإنسان والتواصل مع المجتمع.
ويدرك المتابعون للشأن الأمني الدولي أن المغرب لم يصل إلى هذه المكانة بين عشية وضحاها. فخلال العقدين الأخيرين، تبنّى المغرب استراتيجية متعددة الأبعاد في مجال الأمن أثمرت نتائج ملموسة في مكافحة الإرهاب، خصوصاً بعد تفجيرات الدار البيضاء سنة 2003 التي شكلت نقطة تحول جذري في المنظومة الأمنية المغربية.
ومن خلال إنشاء المكتب المركزي للأبحاث القضائية، الذي يوصف أحياناً بـ«الإف بي آي المغربي»، واعتماد تشريعات صارمة تخص الإرهاب وغسل الأموال، وإطلاق برامج للمصالحة وإعادة الإدماج داخل السجون، وبناء منظومة متقدمة للرصد الاستباقي، استطاعت المملكة أن تصبح شريكاً موثوقاً للأجهزة الأمنية الأوروبية والأميركية.
ويكفي التذكير بأن تقارير أمنية غربية عديدة أكدت أن معلومات دقيقة قدّمتها الأجهزة المغربية أحبطت مخططات إرهابية في فرنسا وإسبانيا وبلجيكا، خصوصاً تلك المتعلقة بالخلايا المتشبعة بأيديولوجيا داعش.
وأعطى هذا الرصيد من الأداء الأمني للمغرب مصداقية عالية داخل المنظمات الدولية، بما فيها الأنتربول، الذي بات يعتبر المملكة من بين الدول الأكثر تعاوناً وفعالية داخل شبكاته العملياتية.
ولذلك، لم يكن غريباً أن يُنتخب المغرب لعدة مرات في هياكل التسيير داخل الأنتربول، سواء على مستوى اللجان المتخصصة أو على مستوى مناصب القيادة القارية، وهو مؤشر إضافي على الثقة الدولية في المقاربة المغربية.
وقد جاء خطاب رئيس الأنتربول أحمد ناصر الريسي ليعزّز هذه الصورة حين تحدث عن «النموذج المغربي الراسخ في الانفتاح والتعاون الأمني» وعن «التحديث المستدام للبنيات الشرطية».
ويعني هذا الاعتراف أن المغرب لم يعد مجرد دولة مستفيدة من التعاون الأمني الدولي، بل أصبح أحد الفاعلين في إنتاج هذا التعاون وتوجيه مساراته.
ومن خلال مساهماته التقنية، ودعمه للمنصة الرقمية الدولية للأنتربول، وتطوير التجربة المغربية في تدبير قواعد البيانات البيومترية، صار المغرب يُنظر إليه كدولة قادرة على تقديم قيمة مضافة داخل منظومة الأمن العالمي.
كما أن شهادة الأمين العام للأنتربول فالديسي أوركيزا بأن المغرب «عضو نشيط ومنخرط بقوة» لم تأت من فراغ، بل تعكس كثافة المبادلات العملياتية بين الأجهزة المغربية ونظيراتها الدولية، سواء عبر النشرات الحمراء، أو التتبع المعلوماتي، أو التعاون في تفكيك الشبكات المتورطة في الاتجار بالبشر والهجرة غير النظامية.
وفي السنوات الأخيرة، لعب المغرب دوراً محورياً في مكافحة شبكات تهريب البشر العاملة بين غرب إفريقيا وأوروبا، وكان لتعاونه مع الأنتربول ومع الشرطة الأوروبية «يوروبول» دور حاسم في تفكيك عشرات الشبكات التي كانت تستغل هشاشة الشباب الأفريقي الراغب في الوصول إلى الضفة الشمالية من المتوسط.
ومن الجوانب المركزية في النقاشات التي احتضنتها مراكش، ما يتعلق بتنامي الجريمة السيبرانية، وهي ظاهرة باتت تُشكل التهديد الأول لكثير من الدول بسبب قدرتها على شلّ البنى التحتية الحيوية، واختراق الأنظمة المصرفية، وتنفيذ عمليات احتيال رقمية بملايين الدولارات.
ومن خلال تبنّي المغرب لاستراتيجية وطنية للأمن السيبراني، وخلق المديرية العامة لأمن نظم المعلومات، وامتلاك قدرات عالية في مجال التحقيقات الرقمية، أصبح البلد من بين المحددات الأساسية في شبكات مكافحة الجريمة الإلكترونية داخل إفريقيا والشرق الأوسط.
المغرب يتعامل مع الأمن باعتباره نعمة جماعية ومسؤولية مشتركة تُمارس داخلياً بالموازاة مع الانفتاح على الشراكات الدولية والتنسيق العابر للحدود
ولذلك، مثّلت الدورة 93 للأنتربول فرصة لتبادل الخبرات وتطوير آليات جديدة تعتمد الذكاء الاصطناعي والتنبؤ الآلي في تحليل السلوكيات الإجرامية.
وأما على مستوى البعد الإقليمي، فقد أثبتت دورة مراكش مرة أخرى أن المغرب يطمح إلى لعب دور المحور الأمني داخل إفريقيا، ليس فقط من خلال وضع خبراته رهن إشارة البلدان الأفريقية، بل كذلك عبر مساهمته في التفكير المشترك بشأن مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل التي تعيش اليوم تحولات خطيرة نتيجة تراجع الوجود الدولي والانقلابات العسكرية وتوسع نفوذ الجماعات المسلحة.
وفي هذا السياق، فإن خبرة المغرب في برامج تفكيك التطرف العنيف، والتعليم الديني، وتأطير الحقل الروحي، تبقى من بين الأكثر طلباً في القارة.
وظهر البعد الأممي للدبلوماسية الأمنية المغربية جلياً في اللقاء الذي جمع المدير العام للأمن الوطني مع رئيس شرطة الأمم المتحدة فيصل شهكار، حيث جرى بحث إمكانية تعزيز مشاركة الخبرة المغربية في بعثات حفظ السلم.
وقد سبق للأمم المتحدة أن عبّرت في عدة مناسبات عن تقديرها للمهنية العالية للشرطة المغربية العاملة ضمن قوات القبعات الزرق في إفريقيا، خصوصاً في الكونغو الديمقراطية وجمهورية إفريقيا الوسطى.
وهو ما يشير إلى أن الرباط تتجه نحو توسيع حضورها داخل عمليات السلام، مما يرسّخ مكانتها كفاعل يزاوج بين الأمن والتنمية والاستقرار الإقليمي.
ومن الواضح أن المملكة تسعى من خلال هذا الحدث إلى تثبيت مراكش كعاصمة دولية للحوارات الأمنية، خاصة بعد النجاحات الكبرى التي حققتها المدينة في احتضان مواعيد عالمية منها قمة «مراكش» للهجرة، واجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد، وفعاليات دولية متعلقة بالتغير المناخي.
ويشير محللون أن هناك توجّه مغربي واضح لتكريس مدن معينة كمنصات دبلوماسية متخصصة، بما يعزز الحضور الدولي للمملكة ويُظهر استقرارها السياسي والأمني.
ويؤكد هؤلاء المحللون أن احتضان مراكش لهذا العدد الهائل من قادة الأجهزة الأمنية في العالم، والذي تجاوز 160 وفداً، ليس حدثاً عابراً، بل يحمل في طياته عدة رسائل سياسية واستراتيجية. أولها أن المغرب بات نقطة ارتكاز أمنية في منطقة شديدة الاضطراب. وثانيها أن المملكة تُراكم ثقة متزايدة من جانب الشركاء الدوليين، سواء الأوروبيين أو الأميركيين أو الأفارقة. وثالثها أن الرباط تتحول تدريجياً إلى فضاء آمن لعقد الاجتماعات الحساسة ذات الصلة بتنظيمات أمنية دولية، وهو أمر لا تقوى عليه إلا الدول التي تتمتع بقدرات أمنية عالية واستقرار سياسي طويل الأمد.
كما أن إشادة الأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب بالنموذج الأمني المغربي باعتباره نموذجاً «يتجاوز مكافحة الجريمة ليقيم شراكة بين الشرطة والمجتمع» تعكس تحولاً حقيقياً في الصورة العامة للجهاز الأمني المغربي الذي كان يُنظر إليه قبل عقدين نظرة مختلفة. فالأمن اليوم في المغرب أصبح ينفتح على الرقمنة، وحقوق الإنسان، والإجراءات الوقائية، والاحترافية العالية، وهي عناصر ساهمت في تحسين صورته داخلياً ودولياً وخلق علاقة ثقة مع المواطن، وهي مسألة بالغة الأهمية في أي منظومة أمنية معاصرة.
المغرب يتبنّى استراتيجية متعددة الأبعاد في مجال الأمن أثمرت نتائج ملموسة في مكافحة الإرهاب
ولعلّ أهم الإشارات التي حملتها دورة مراكش هي أن المغرب لم يعد يكتفي بالتفاعل مع المنظومة الأمنية العالمية، بل أصبح من صانعيها، مسهِماً في تحديثها وتطوير أدواتها واقتراح مسارات جديدة لعملها.
وقد ظهر ذلك في النقاشات المتعلقة بتعزيز التعاون المعلوماتي، وتطوير آليات الإنذار المبكر، وتعميم قواعد بيانات السفر، ومشاركة المملكة في المشاريع التجريبية الخاصة بتقنيات الذكاء الاصطناعي الشرطي. ويعني هذا أن المغرب يتجاوز موقع «المنفّذ» إلى موقع «المؤثر».
وفي خضم هذه الدينامية، لا يمكن تجاهل أن المغرب يراهن على الأمن ليس فقط كضرورة وطنية، بل كرافعة اقتصادية ودبلوماسية. فالدول التي تُقدم صورة الاستقرار تكون أكثر جذباً للاستثمار، وأكثر قدرة على لعب دور الوسيط في النزاعات، وأكثر أهلية لاستضافة الأحداث العالمية الكبرى.
ومن هنا، فإن الدبلوماسية الأمنية المغربية ليست مجرد تفاعل تقني، بل هي جزء من رؤية استراتيجية تجعل من الأمن إحدى ركائز القوة الناعمة للبلاد.
ولم تكن دورة الأنتربول في مراكش مجرد مؤتمر دولي عابر، بل محطة تعكس مرحلة جديدة في مكانة المغرب داخل المنظومة الأمنية الدولية.
ومن خلال تزاوج الرؤية الاستباقية، وإصلاحات الحوكمة الأمنية، والانفتاح على التعاون الدولي، والتوازن بين الأمن وحقوق الإنسان، استطاعت المملكة أن ترسم لنفسها موقعاً متقدماً كدولة موثوق بها، ذات مصداقية عالية، وقادرة على المساهمة في صياغة مستقبل الأمن الدولي.
وهكذا، يبدو أن المغرب يرسّخ اليوم نموذجاً أمنياً يقوم على الواقعية والشراكة والابتكار، ويثبت أن الاستقرار ليس شعاراً بل عملية متواصلة تتطلب رؤية واضحة وإرادة سياسية ومؤسسات قوية وقدرة على التكيف مع التحديات المتغيرة.




