المنزلةُ الأخيرةُ للسيدةِ الأولى / عبد اللطيف كِلّي

هيئة التحرير25 نوفمبر 2025آخر تحديث :
المنزلةُ الأخيرةُ للسيدةِ الأولى / عبد اللطيف كِلّي

أطلِقَ لقب (السيدة الأولى) للمرة الأولى سنة 1849 في أميركا، خلال جنازة زوجة رئيس الولايات المتحدة الرابع، حيث وُظِّف اللقب في كلمة التأبين، بينما يرى بعض المؤرخين أن اللقب استُخدم فعليًا قبل ذلك، وتحديدًا في سنة 1838، بإشارة إلى (مارثا واشنطن) زوجة رئيس الولايات المتحدة الأول (جورج واشنطن)؛ فهي بذلك السيدة الأولى، الأولى، للولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا نسنتنج أن اللقبَ ابتكارٌ أمريكيٌ شاع فيما بعد، وهو لقب غير رسمي يطلق على زوجة حاكم بلدٍ أثناء فترة حكمه. ولأن ثقافتنا المعاصرة شبقة لاقتباس القشور من الثقافات الغربية، فقد شاع اللقب في بلداننا الشرقية، بل تعدى الأمر حدوده في السنوات الأخيرة، فبالإضافة إلى إطلاق اللقب على زوجة رئيس الجمهورية، أصبحتْ زوجة رئيس الوزراء تطلق على نفسها ذات اللقب؛ لتتسابق معهما زوجة رئيس البرلمان، فتعج البلاد بثلاث سيدات يتنافسن على اللقب الرفيع. وهو عندنا يتعدى كونه لقبًا غير رسمي؛ كما نشأ وترعرع في أمريكا، بل يمثِّل منصبًا ذا صلاحيات كبرى، وترضخ له ميزانية فخمة تتشرف السيدة الأولى بالتصرف بها تحت عناوين إنسانية واجتماعية ودبلوماسية في بعض الأحيان.

لو أننا سلّمنا بكينونة اللقب، وعُدنا به إلى حِقب التاريخ الماضية سنجد بعض زوجات الحكام قد برزن في صدارة المشهد؛ لقوة شخصيتهن وتأثيرهن في المجتمع وتحضرني في هذا المقال السيدة الأولى (زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور) زوجة الخليفة العباسي الخامس (هارون الرشيد). التي عُرِف عنها اهتمامها الكبير بالآداب والعلوم، ففتحتْ خزائنها لتجعل بغداد قِبلة ومستقرًا للعلماء، وبذلت الكثير من المال لتحشيد مئات الأدباء والشعراء والعلماء، ووفرتْ لهم كل وسائل الإنتاج والبحث. وكانت زبيدة لامعة الذكاء حتى باتت شريكة حقيقية للخليفة هارون الرشيد، لكنها راعت بفطنتها إبراز الرأي الصائب دومًا على أنه “رأي الخليفة”، فكسبتْ بذلك احترام وثقة الحاشية.

من الأحداث ذات المغزى الدال على حسن تصرف زبيدة أنها اختلفت مع الرشيد ما بين (الفالوذج) و(اللوزينج)، أيهما أطيب؟ ولتقريب الفكرة إلى ذهن القارئ الكريم؛ فإن الفالوذج حلوى قريبة الشبه من حلوى (الكُنافة) وأما اللوزينج فهي أقرب إلى (زنود الست) في أيامنا هذه. ونعود إلى هارون وزبيدة اللذين ظلا مختلفين – دعابةً – بالتفضيل ما بين الحلوتين؛ حتى حضر (أبو يوسف القاضي)، فسأله الرشيد عن ذلك فقال: “يا أمير المؤمنين، لا يُقضى على غائب”، فأمر الرشيد بإحضار الصنفين، فأكل القاضي حتى اكتفى، ثم سأله الرشيد: “احكم”، فقال: “قد اصطلح الخصمان يا أمير المؤمنين”، أي أنهما متعادلان في المفاضلة، فضحك الرشيد، وأمر له بألف دينار، فبلغ ذلك زبيدة، فأمرتْ له بألف دينار إلا دينارًا، وذلك كي تبقي مكرمة زوجها الخليفة هي الأعلى. ولعلك تتنهّد مثلي – عزيزي القارئ – وأنت ترى هذه الدنانير تتبعثر بين يدي رجل يحكم ما بين الكنافة وزنود الست، وقد يأخذ منك الأسى مأخذه حين تدرك أن الدينار في تلك الحقبة مسكوك من الذهب، بينما الدرهم مسكوك من الفضة!

لكي أخفف عنك آلامك النفسية سأعود بك إلى حقبة أبعد من ذلك، في رحاب الفاروق (عمر بن الخطاب) الذي كان مُرتَّبه الأسبوعي ثلاثة دراهم يتقاضاها من بيت المال مقابل وظيفته كـ(أمير للمؤمنين)، إذ جاءته زوجته – السيدة الأولى – يومًا من الأيام وقالت له “أشتهي الحلوى يا أبا حفصة”، فاستغرب عمر من طلبها، وسألها من أين يأتيها بثمن الحلوى، لاسيّما وأنها تعدل درهمين؟ فقالت بمكر إنها تستطيع تدبّر الأمر، فلو تقشفت بصرفيات المنزل سوف توفر كل أسبوع نصف درهم من الدراهم الثلاثة التي يتقاضاها عمر كمرتب أسبوعي، وتكتفي بصرف درهمين ونصف على شؤون المنزل، وهكذا خلال بضعة أسابيع ستوفر المبلغ الكافي لشراء الحلوى؛ فأعجبتْ الفكرة عمرَ، وطلب منها أن تبدأ بالتقشف وتسلمه المبلغ حالما يحين الموعد.

مرت بضعة أسابيع ولم يلحظ عمر أي تغير في مستوى المعيشة المعتاد في منزله، فالطعام والشراب الذي يتناوله لم ينقص منه نوع ولا كمية، وكذلك بقية لوازم المعيشة، بينما تمكنتْ السيدة الأولى من ادّخار مبلغ من المرتب، سلمته لزوجها أمير المؤمنين في الموعد المحدد. بيد أنه بدل أن يشتري لها الحلوى أرسل في طلب مسؤول بيت المال وقال له: “ضع هذا المبلغ في بيت المال فالمسلمون أولى به، ومنذ اليوم سيكون مرتبي الأسبوعي درهمين ونصف الدرهم بدلًا من ثلاثة دراهم، فثمة زيادة في المرتب بمقدار نصف درهم”.

لا يخلو التاريخ المعاصر من سيداتٍ عانين ما عانته أم حفصة، فأذكر أنني شاهدت على شاشة التلفاز مواطنًا عراقيًا يُدلي بشهادته خلال مقابلة صحفية ذاكرًا أنه في سنة 1975 كان يعمل موظفًا في (المديرية العامة للتقاعد) وتحديدًا في (القسم العسكري) ضمن المديرية التي كانت تقع حينها في منطقة (كرادة مريم) بالعاصمة (بغداد)، وقد وصل مكتبه ذات يوم مبكرًا قبل بدء الدوام الرسمي. رنّ هاتف المكتب وإذا بصوت امرأة تسأله عن اسمه فأجابها: “اسمي (محمد حسين)”، قالت له بعد أنْ تأكدت أنه يعمل في القسم العسكري إنَّ كنيتها (أم أحمد) ولديها معاملة في القسم العسكري، وطلبتْ منه أن يقدم لها المساعدة لإنجاز معاملتها قدر المستطاع، فأكد لها أنه سيكون في رسم خدمتها وسيقوم باللازم حين تصل المديرية، وما عليها إلا أن تسأل عنه. وفي تمام الساعة العاشرة إذا بامرأة تتجه نحوه وقد أرشدها إليه بعض الموظفين من زملائه، فأقبلت تقول له: “أنا أم أحمد التي اتصلت بك صباحًا”. رحَّب بها وطلب منها الذهاب إلى قسم الأضابير لجلب الإضبارة الخاصة بها كي ينجز المطلوب، وكانت الصدمة حين عادت وناولته الإضبارة فقرأ على غلافها رتبة واسم صاحبها (المشير الركن عبد السلام محمد عارف)، رئيس الجمهورية العراقية الأسبق (1963 – 1966). عندها طلب الموظف محمد حسين من السيدة (ناهدة حسين) أم أحمد أن تجلس على كرسي قريب؛ ليبدأ بإكمال كافة لوازم المعاملة وتعقيبها بين زملائه ومسؤوليه بنفسه وهي جالسة دون أن تتحرك خطوة واحدة، كل ذلك تقديرًا منه واحترامًا لمن كانت ذات يوم السيدة الأولى في البلاد، وها هي اليوم تعيش على الهامش، تسكن في دار مستأجرة في إحدى ضواحي بغداد.

أكتب هذا المقال مترحمًا على أم أحمد، متألمًا على أم حفصة؛ وأنا أتصفح صورًا لجزيرة عامرةٍ بالقصور تتوسط البحر الأبيض المتوسط، تمتلكها سيدة أولى من بلداننا الشرقية المنكوبة.

 

عاجل !!