حراثة الروح: اليراع والجسد في تشكيل خطاب الهجران في قصيدة (صوفية.. في محراب الهجران) للشاعرة آمال زكريا / أياد النصيري

هيئة التحرير25 نوفمبر 2025آخر تحديث :
حراثة الروح: اليراع والجسد في تشكيل خطاب الهجران في قصيدة (صوفية.. في محراب الهجران) للشاعرة آمال زكريا / أياد النصيري

تبدأ القصيدة بعنوان مزدوج يحمل مفارقة جمالية عميقة(صوفية.. في محراب الهجران) فالصوفية تُذكرنا بالاتحاد مع الذات الإلهية والوجد، والذوبان بينما الهجران هو حالة من الفراق والألم. هذا التزاوج بين المتضادين (الصوفي والدنيوي- الاتحاد والفراق) يضع القارئ منذ اللحظة الأولى في فضاء القصيدة الرئيسي قدسية الألم وطقوسية الغياب. اسم الشاعرة (آمال) يحمل دلالة تراجيدية في سياق نص يعج بالحرمان والشوق القصيدة منشورة عبر صفحتها الرسمية في الفيس بوك2 9

تُقدّم الشاعرة تجربتها العاطفية بلغة صوفية مُحدثة حيث تتحول محنة الهجران إلى (محراب) للتعبد والغياب إلى حالة وجدية. الانزياح اللغوي هنا لا يهدف للتزيين بل لإعادة تشكيل الواقع العاطفي. فـ (خيوط القمر) لا تكتفي بكونها صورة جميلة بل هي قوة تغوي و(تزركش) مما يمنح العناصر الطبيعية فاعلية سحرية. التشبيه (مثل وحي يسري في شراييني) يرفع من منزلة هذا الشوق إلى مرتبة الوحي المقدس مؤكداً على قداسة هذا الحب ومركزيته في كينونة المتكلمة

تبني زكريا عالمها الشعري على ثنائيات ضوئية النور/الظلمة -الحضور/الغياب -الصلاة/اللعنة

طقوس مُقلَبة(أتوضأ بغمام الرماد) صورة مدهشة تجمع بين الطهارة بالماء والرماد رمز الدمار والموت. هذه الطقوس المقلبة تعبر عن استحالة التطهر الحقيقي في ظل الهجران

ولذا نجدالاندماج الجسدي بالنص الشعري(يمضي اليراع.. يحرث رغبة قصائدي / يسيل حبره الرطب / ورضابي) هنا يندمج الجسد بالنص والحبر باللعاب لتصبح الكتابة فعلًا جسديًا حميميًا، هي عملية ولادة لجمال من رحم الألم. اليراع لا يكتب فقط، بل (يحرث) مما يعطي فعل الكتابة بُعدًا زراعيًا يتعهد بالألم ليُنتج القصيدة

المقطع الثاني هو ذاكرة جسدية حية.(جدائلي غزلان تجوب البراري) تحويل الشعر من مجرد زينة إلى كائنات حية حرة (غزلان) تشتاق لصيادها. تحول هذه الغزلان من حالة الحيوية والحرية (تجوب البراري) إلى حالة الضياع (تاهت غزلانك في البعاد) والتُرّمل (ترملت جدائلك في العتمة) يُجسّد بشكل مؤلم فقدان الأنوثة والحيوية مع غياب المحبوب

لا تكتفي الشاعرة بالانزياح الصوفي بل تبني أسطورتها الشخصية عبر استدعاءات ثقافية

تشبه نفسها بـ (الفراشات) التي تحوم حول (لهيبها) صورة تذكرنا بأسطورة نرسيس أو أسطورة العنقاء، حيث تتحول الذات إلى ضحية لجمالها وألمها في آن.

لذا يكون المشرب الصوفي الملغي  (في كل ليلة أعد لك كؤوس الخمر والتفاح) الخمر هنا هي خمرة الصوفية رمز للوصال والوجد لكنها تظل معدة وغير مُرتشفة بسبب الغياب. التفاح رمز الإغراء والمعرفة المحرمة يبقى بلا من يقضمه. هذا الانتظار يحول الطقس الصوفي الجميل إلى طقس معذب

تتأرجح لغة القصيدة بين رقة صوفية خالصة (تراتيل عشق)(نداء فجر بعيد) وعنف مادي صادم (البعاد يغرز أسنانه في بياضي ينقض على أحلامي مثل وحش). هذا التذبذب اللغوي يعكس الاضطراب الداخلي للشاعرة بين استسلامها الناعم للحب وتمردها الغاضب على قسوة الغياب. كلمة (لئيمة) التي تكررت لوصف الأوقات والمسافات، هي كلمة يومية بسيطة، لكنها في هذا السياق تحمل ثقلاً هائلاً من الإحباط والألم

تُخلق الدراما في القصيدة عبر حوار مع الغائب مع الطبيعة مع الليل وأخيرًا مع الذات. الفضاء مغلق(الجهات مغلقة)(باب غرفتي أيضاً) هذا الحصار المكاني هو انعكاس للحصار النفسي. وفي وسط هذه العتمة تظهر محاولات يائسة لخلق الجمال (أضيء عتمة شعري بزهرة غاردينيا) إنها محاولة لإنقاذ الذات من الغرق الكلي في اليأس

تنتهي القصيدة بصورة مصغرة للعالم الذي تريده الشاعرة عالم الزرع والخصب مقابل عالمها الجاف(أريدك أن تأتي / تنثر الماء في حقلي / فينبت زمرد أخضر) النداء الأخير (أحمل معولك أيها الصوفي) هو إعلان عن الرغبة في مشاركة المحبوب في (حفر) عالمهما المشترك، في(حرث) حبهما كما يحرث اليراع رغبة القصائد. اللحظة هي لحظة (قبل أن يؤذن الفجر) أي لحظة الهدوء الأخيرة قبل انتهاء الليل وانتهاء مهلة الأمل، مما يعطي القصيدة إحساسًا بالموسيقية والزمن المنقضي وكأنها صلاة حقيقية قبل انتهاء وقتها

قصيدة (صوفية.. في محراب الهجران) للشاعرة (آمال زكريا) هي نص مكثف استطاعت من خلاله أن تقدم رؤية ناضجة وجريئة لمعاناة الأنثى/العاشقة/الصوفية. لقد نجحت في تحويل الألم الشخصي إلى تجربة إنسانية شاملة مستخدمة أدوات الانزياح الصوفي والصور المجازية الجريئة والبناء الدرامي المحكم. القصيدة ليست مجرد بكاء على فراق بل هي تشريح لجمالية الألم وطقوس الانتظار مكتوبة بلغة هي أنقى ما يكون الشعر حبر يسيل ممزوجًا برضاب الروح

الشاعرة لم تكتب عن الحب بل كتبت بالحب جعلت من الهجران منزلًا للنورومن الوحدة مرصدًا للقاءوهكذا تبقى (صوفية في محراب الهجران )نصًا يلمس الروح ويظل صداه يعزف في أعماق القارئ كتراتيل عشقٍ لا تنتهي

 

 

القصيدة

صوفية.. في محراب الهجران

آمـال زكـريـا/الجزائر

ثمة بريق يغريني

وانا المعتكفة بركن الهجران

تغويني خيوط القمر

تزركش أحلامي الصامتة

مثل وحي يسري في شراييني

تسبح في صدري

ونداء فجر بعيد يدعوني للصلاة

اتوضأ بغمام الرماد

امد صلاة عشق

تتسع حدود محبرتي

والجدران

و تتعمق أوجاعي

يمضي اليراع..

يحرث رغبة قصائدي

يسيل حبره الرطب

ورضابي

يأخذني الضوء إلى عتمته

كم سال ثغري

وتمتمت شفاهي بتراتيل عشق

وانت تنسج طيف الوصال

وأنا أنسخ حضورك الشهي  على أوراقي

ارسم أصابعك

وهي تشعل جمر شفاهي

*

كانت جدائلي غزلان تجوب البراري

كان لها لون الكستناء

ويفوح من شعري اريج القهوة

منذ دهر لم نرتشف فناجين اللقاء

اين صخب الضحكات..

اين تاه بك البحر

أين اصابعك، وانت تمشط عتمته؟

وقد تاهت غزلانك في البعاد

وترملت جدائلك في العتمة

ومازالت الفراشات تحوم حول لهيبي

يا لهفي على الضوء

يا لهفي على درب لا يحملك إليِّ..

*

في كل ليلة أعد لك كؤوس الخمر

والتفاح

تعال أسقيك نبيذي

واقضم تفاحك..

لئيمة هي الاوقات

لئيمة المسافات

والبعاد يغرز أسنانه في بياضي

ينقض على احلامي مثل وحش

يفترس بهاء أمنياتي..

أيها الليل

لسكونك سحر

الجهات مغلقة

وباب غرفتي أيضاً

اغدق العطر على جسدي

اضيء عتمة شعري بزهرة غاردينيا

اعانق ظلك في وحدتي

و في الخارج لا بوصلة

ثمة هواء يتدحرج بارداً

ورجل هش بارد القسمات

أريدك ان تأتي

ان تنثر الماء في حقلي

فينبت زمرد أخضر

أحمل معولك أيها الصوفي

تعال فمازال بقية من نبيذ

في محرابي الاثير

نرتشفه معاً

قبل ان يؤذن الفجر

*****

عاجل !!