الشاطئ الذي تغرق فيه الأصوات / د. هادي حسن حمودي

هيئة التحرير24 نوفمبر 2025آخر تحديث :
الشاطئ الذي تغرق فيه الأصوات / د. هادي حسن حمودي

(1)

لا أعرف أحدا وهب حياته وقلمه للمدينة التي نشأ بها وترعرع مثل الأستاذ صالح بن سليمان بن سالم الفارسي، حيث كانت بحوثه وكتبه ذات محورين، المحور المذكور، وظلاله في البحوث الإدارية وهذا تخصصه العلمي الجامعي.

  • أعرض هنا لثلاثية هي آخر ما أصدره عن منطقته (قريات) بعنوان (قريات، المكان وآثار الإنسان).

تعريف:

تقع ولاية قريات في الجزء الشرقي من محافظة مسقط، في سلطنة عُمان، وتحتل موقعًا مركزيا يربط بين العاصمة مسقط وبقية المناطق الشرقية من سلطنة عمان، يحدها كل من ولاية العامرات وبحر العرب، حيث تمتد ولاية قريات على طول شريط ساحلي يمتاز بالمناظر الخلابة والجبال التي تضفي على المنطقة طابعًا فريدًا، كما تتميز بتراثها الثقافي الغني، حيث تضم العديد من القلاع والحصون التاريخية التي تجذب السائحين والزائرين من مختلف أنحاء العالم، مثل: حصن قريات، وحصن الساحل، وحصن دغمر (داغ)، وحصن المزارع، وبرج الصيرة، وبرج جبل خرموه. ويعتبر موقع قريات الساحلي المميز من أهم عوامل الجذب، حيث يسهل الوصول إليها عن طريق البحر، وهو ما يتيح لسكانها وضيوفها الاستفادة من الأنشطة البحرية والصيد.

  • قريات، المكان وآثار الإنسان

الأجزاء الثلاثة صدرت في مسقط قيل شهور قليلة (1446 هـ/ 2025م) يقع الجزء الأول في 596 صفحة، والثاني في 264 صفحة، والثالث في 364 صفحة، ملونة جميعها ومزينة بالصور الجميلة من بيئة ولاية القريات، وسبق لنا أن كتبنا عن المنطقة وعن بعض ما أصدره الأستاذ صالح من بحوث عنها، وذلك قبل سنوات عديدة.

ونعود الآن للحديث عن هذه الثلاثية الرائعة الدالّة على جهد كبير، وبذل يستحقه الكشف عن (قريات) وما حاذاها مما يحقق عنوانها (قريات، المكان آثار الإنسان).

(2)

ولاية قريّات، قبل هذا وبعده، ولاية من ولايات سلطنة عُمان، عشقها ابنها الأستاذ صالح منذ أن وعى على الحياة فجلّاها بأجمل الصور وأحلاها، لم يكن مغاليا في وصفها تراثا ومعاصرة، ولم يكن منحازا لها مجانبا للحق، بل صورها بموضوعية وحياد، وأدى به ذلك إلى مزيد الحب والعشق.

ومن لا يعشق تلك الأماكن الجميلة، والضفاف الغنية بما لا يخطر على البال من معالم وصفات. وإني لأذكر أول زيارة لها سنة 1991م وكان الجو صيفا بعد شهرين من انقضاء حرب الكويت، فوقفت مع صديقين عزيزين على ضفة شاطئ في مقابلة وسط صخرة في البحر تبعد عن الشاطئ أمتارا، لحظنا في الشاطئ ظاهرة غريبة جدا حتى استحق مني وصفه بالشاطئ الصامت. فقد رأيت المتحادثين في نقطة من الشاطئ تقابل وسط تلك الصخرة تماما، لا يسمع أحدهم الآخر إلا أن تكون أصواتهم مرتفعة جدا قياسا بأماكن أخرى، وعلى الرغم من ارتفاعها فبالكاد تصطادها آذان السامعين.

وهي ظاهرة طبيعية لا أعرف سببها أو أسبابها، وزرت الشاطئ  ثلاث مرات ومعي في كل مرة أصدقاء عمانيون ونبهتهم إلى هذه الظاهرة، فلمسوها بأنفسهم، واستغربوها بل أذهلتهم.

(3)

هذه الثلاثية لا يمكن تلخيصها، كمأا أن الحياة لا يمكن تلخيصها، فقد استطاع الأستاذ صالح أن يمنح آثار المكان حياة وأن يجعل قارئه في حوار حي مع تاريخ المكان وآثار الإنسان التي تركها ورحل لتبقى سجلا للأجيال.

ولكن لا بأس من إلمامات..

يتضمن الجزء الأول في صفحاته الـ(596 صفحة) أربعة فصول:

1-    ملامح الجغرافية البشرية والطبيعية في ولاية قريّات.

2-    قرى وبلدات ولاية قريّات، ذاكرة تاريخية وثقافية ووجهة سياحية.

3-    أسماء المواضع الزراعية والبحرية في ولابة قريّات.

4-    موقع التراث الثقافي، الفنون الصخرية القديمة في ولاية قريّات.

أما الجزء الثاني فقد تضمن ثلاثة فصول، هي:

5-    أسماء الجبال والهضاب والتلال والمرتفعات الجبلية في ولاية قريات.

6-    أودية ولاية قريّات، نظام بيئي مستدام.

7-    أسماء الشِّراج المائية في ولاية قريّات. وهي روافد الأودية.

أما الجزء الثالث فقد تضمن الفصول:

8-    أسماء المواضع والأمكنة في ولاية قريّات.

9-    قريات في بعض المصادر والوثائق البريطانية والبرتغالية.

وسُبق الكتاب بمقدمة وانتهى بخاتمة فيها الملمح العام للكتاب، وقبله صورة وثائق من المصادر البريطانية والبرتغالية.

والأجزاء الثلاثة مزينة بصور ملونة راقية وجميلة وجذابة، عن ولاية قريّات في ماضيها المجيد وحاضرها المزدهر، بقلم ابن من أبنائها البررة الذي واصل مسيرة تطورها المعاصرة.

(4)

وإذا كان لا بدّ من إعطاء فكرة موجزة نافعة عن مضامين الكتاب وأسلوب المؤلف البياني الراقي السلسال، فنأخذ شيئا من خاتمة الكتاب الكاشفة عن جميع مادة الكتاب وأهدافه. ومنها:

تناول هذا الكتاب (قريّات المكان وآثار الإنسان) جملة مواضيع تهتم بالجغرافية البشرية والطبيعية في ولاية قريّات، وقد توزعت محتوياته ومادته في ثلاثة أجزاء، وتتضمن تسعة فصول أساسية.

كما ركز الكتاب على جغرافية الأماكن ومسمّياتها، وقدّم وصفا لأهم معالمها التاريخية والطبيعية و(الطبوغرافية). فولاية قريات بحكم موقعها (الاستراتيجي) وتنوع البيئات فيها، تزخر بتراث مادّيّ ومعنويّ وطبيعيّ ثريّ ومبهر ومتنوع. وقد أسهمت عناصره وتفاعلاته الاجتماعية على مدار تاريخ الولاية العريق في غرس مشاعر الانتماء ورقيّ القيم المجتمعية، وتشكيل البنية الاجتماعية والثقافية، وتأصيل الهويّة الوطنية.

ويؤكد المؤلف على أن من أهداف الكتاب رصد الوثائق وجمعها من أجل تثبيت الذاكرة المكانية لعدد كبير من المواضع والأماكن والأعلام الجغرافية والمعالم الحضرية في مختلف قرى الولاية.

ومما تفردت به هذه الموسوعة حصر الرسومات والنقوش وتوثيقها وكذلك الرسومات والخطوط والكتابات الصخرية في مختلف الأمكنة بالولاية.

ذلك لأن المؤلف يعتقد أنها تشكل ذاكرة تاريخية وثقافية للإنسان والمكان، ولها قيمة إبداعية وأدبية وفنية فائقة الجمال.

ولم ينس المؤلف – كما هي عادته اللطيفة – أنّ العناية بالكلمات والألفاظ والمصطلحات تترابط في اللهجة المحلية، لأن تلك المصطلحات من ابتكار الإنسان وتوضح العلاقة بينه وبين المكانن لأن الاصطلاح دليل على ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن المؤلف وقد عني باللغة كثيرا في مؤلفاته السابقة فإنما يهدف إلى إحياء ما مات من تلك الألفاظ، وينبه الجيل المعاصر على ماضيه العريق ودلالة تلك الكلمات والمصطلحات.

(5)

لذا يقرر المؤلف أن يولي عناية كبيرة لتلك المسميات والمصطلحات والأسماء. لذلك دعا ويدعو إلى بذل اهتمام أكبر وأعمق وأوسع بتلك الألفاظ، كما يجب – من وجهة نظره – وضع دراسات شاملة تعرّف بذلك التراث وتسوقه مُنتَجًا ثقافيا تاريخيا جغرافيا في آن واحد، كما يجب أن توجد أطر مناسبة لصيانته وحفظه وتطويره والاستثمار في مكوناته مما يُسهم في رفع مستوى الوعي الاجتماعي لدى الأجيال المتجددة والتي يجب أن تظل مرافقة لتراثها القريب والبعيد حفاظا على الشخصية المتزنة المعروفة بها البلاد العمانية. مع تأسيس ركيزة أساس عليها حمل تحقيق تلك الرسالة النبيلة.

يقول الأستاذ صالح (وفي ظل تطور التنمية الحضرية وتسارع التوسعات العمرانية وزيادة الاهتمام بالتنمية البشرية والإدارة المحلية، فمن المهم أن تستثمر الأسماء والمفردات والألفاظ والمصطلحات الجغرافية القديمة في المدن والأحياء الجديدة والطرق والشوارع والمتنزهات والمدارس والمستشفيات والمراكز الصحية والمكتبات والمساجد والأسواق والميادين العامّة والملاعب والمعالم الحضرية الأخرى وغيرها…) لأن هذا التوجه في اعتقاد الأستاذ المؤلف سوف يؤدي إلى بث روح الحياة والجمال في التراث الثقافي لعُمان ويضمن تداوله واستمراره واستدامته عبر الأجيال. فالأسماء الجغرافية تُكسب الأمكنة وعناوين إقامة الأفراد كالفنادق والشوارع والمنازل أهمية ومكانة ورفعة وسموّا، وتشكّل جزءا مهما من الهويّة الوطنية القانونية والثقافية.

والأستاذ صالح في دعوته هذه يضع إصبعه على جرح خطير تحاول بعض التيارات اللامسؤولة في بعض البلدان العربية نكأه وإلحاق الأذى بالدول العربية بإلغاء الاهتمام بالجغرافية، في وضعنا العربي المعاصر الذي هو بأمس الحاجة إلى معرفة غرافية البلدان العربية بمختلف أنواع الدراسات الجغرافية البشرية والتاريخية والجيوغرافية والموارد الاقتصادية وغيرها، كما هو الحال في الدراسات التاريخية واللغوية وما حاذاها لأنها تمثل الهوية العربية، ومن غيرها ليس إلا الخراب.

(6)

أطيب التهاني للثقافة العربية بهذا المنجَز العُماني الراقي والجميل شكلا ومضمونا وأهدافا نبيلة..

وللأستاذ المؤلف أطيب الآمال.

عاجل !!