النص الشعري “حين يطول الطريق” للشاعرة نغم العيساوي هندسة الوجع وبلاغة الصبر: تحليل لتموضع السارد وآليات الترقب السردي / قراءة / منال رضوان

هيئة التحرير18 نوفمبر 2025آخر تحديث :
النص الشعري “حين يطول الطريق” للشاعرة نغم العيساوي هندسة الوجع وبلاغة الصبر: تحليل لتموضع السارد وآليات الترقب السردي / قراءة / منال رضوان

يمثّل النص الشعري حين يطول الطريق للشاعرة نغم العيساوي بنية اعترافية تتخذ من السرد المتوتر سلمًا لإعادة تشكيل الذات وتصاعد الصراع بين الأنا المتصدعة ومحاولة رأب الصدع، يحدث هذا عبر وعي يكتب آلامه بوصفها مادة قابلة للتحوّل، وتستند هذه البنية إلى حضور ذاتٍ سردية تتقدّم داخل الخطاب كـ.. بطل سارد، أو فاعل ناطق، يقود التجربة ويؤسس دلالاتها، فيكشف خطابه عن مسار داخلي يتجاوز حدود الشكوى إلى بناء تصور معرفي للصبر بوصفه فعلاً وجوديًا؛ فالساردة لا تكتفي بأن تكون موضوعًا للألم، وإنما تتحوّل إلى نقطة انبعاث للمعنى، عبر لململة الأشلاء الممزقة وإعادة الرتق حيث تنقل التجربة من مستوى الانفعال إلى مستوى الوعي.

هذا البطل السارد -الشاعرة- يهيمن على النص بضمير المتكلم، لكن هيمنته لا تأتي من الامتلاك السردي للّحظة، لكنها تلجأ إلى ما يعرف بالاستباق السردي فتؤكد عبر مفردات وأحداث مؤداها النهاية كنتيجة حتمية، لكن هذه النتيجة هي تعرف أنها لن تحدث وبأن النهاية هي ولادة جديدة.

وقدرة دقيقة على بناء هذا التوتر الزمني الذي يربط بين ما حدث وما سيحدث وما كان يمكن أن يحدث، فالزمن هنا ليس خطًا مستقيمًا بل فضاء تتجاور فيه مراحل التجربة، وتتحقق هذه البنية بوضوح عبر تقنية، السابق الإشارة إليها Prolepsis التي تظهر في أكثر من موضع حين تستبق الساردة نتائج الألم وتحوّلات الصبر، فترى النضج قبل اكتماله، وتلمح ما سيغدو عليه القلب قبل أن يصل إليه، هي لا تقف عند حدود اللحظة بل تكتبها من موقع أعلى ينظر إلى الأمام بوعي يستدعي المستقبل ليبرّر الحاضر، حتى يصبح الصبر ليس تجربة ماضية فحسب، بل تجربة قادمة أيضًا.

الاستباق هنا أداة خلق شرخ زمني يسمح للشاعرة بأن ترى ذاتها في مرآتين معًا؛ مرآة الماضي المتهدم، ومرآة القادم الذي يتشكل.

فتقول -على سبيل المثال- إن ما يؤلم اليوم (سينضج غدًا) أو إن الوجع (سيصير دعاءً مستجابًا)؛ أي أنها تبني وعيًا مزدوجًا، وعيًا بالجرح، ووعيًا بنتيجته المؤجلة، وهذا التوتر بين اللحظة وامتدادها يمنح النص نبرة فلسفية خافتة، تجعل الساردة في موقع من يفسّر التجربة عقب قصها على مسامع المتلقي، هكذا يتجاوز الخطاب طبيعته الشعورية ليغدو خطابًا تأمليًا يشتغل على تحويل الألم إلى مادة معرفية.

ومع تلك التقنية الزمنية، يستخدم النص حيلة خطابية أخرى تتأسس على ما يمكن تسميته (الانعكاس الداخلي)، حيث يتحول الصبر من قيمة إلى شخصية رمزية، فالساردة لا تتحدث عن صبرها فقط، وإنما تضعه في موضع الكائن الذي (يجلس في صدرها كشيخ حكيم) هذا التشخيص يأتي بوظيفة أنطولوجية؛ إذ يجعل العلاقة بين الذات وصبرها علاقة بين ذاتين، لا بين  مجرد صفة وصاحبها.

وعندما يتحوّل الصبر إلى شيخ، يصبح هو الفاعل الذي يعيد توجيه التجربة؛ بهذا تتحرّر الساردة من أن تكون أسيرة الألم وحده، لأنها تمنح الصبر موقعًا سرديًا يعمل داخل البناء النصي بوصفه قوة مضادة للهدم.

وتتجلى براعة أخرى في استخدام حيلة (التكرار المُقلّب)، حيث يتكرر الفعل في ثلاثيات تحمل حركة متصاعدة: (أنحني ولا أنكسر)، (أبكي ولا أصرخ)، (أتألم ولا أنفضح).

هذه الصياغات تبني إيقاعًا داخليًا يوازن بين الاعتراف والتماسك، بين الانكسار والصلابة، وهو إيقاع يُشعر القارئ بأن الساردة تمارس مقاومة هادئة تستدعي الوعي أكثر مما تستدعي الغضب ادأو العنف، ومن الملاحظ أن التكرار في قصيدة العيساوي ليس زخرفة إيقاعية وإنما يستخدم هنا إعادة تثبيت طبقات مختلفة من التجربة.

فقوة الساردة لا تنتج من نفي الضعف، بل من إعادة صياغة معناه داخل الجملة ذاتها.

وهنا تعمل الجملة على بناء شخصية تتجاوز ثنائية القوة والضعف؛ فتمنح النص توترًا أخلاقيًا يوازي توتره الوجودي.

ويظهر أثر المنهج الأكاديمي في تحليل هذا النص حين نلاحظ تداخل أفقين؛ أفق التجربة الفردية، وأفق الخطاب الثقافي الأوسع الذي تبدو الساردة فيه واعية بقيمة التكوين الوجداني للمرأة أمام الألم والخذلان، فالنص لا يقدّم ذاتًا كقنينة مراقة على عتبات الخذلان، لكنه يقدم ذلك الإنسان الذي يُعيد بناء عالمه الداخلي كما يعاد بناء بيت تهدم في الليل .

هذه الاستعارة الكبرى تمنح النص نبرة شبه ملحمية، تجعل من الساردة شخصية تُجيد (بناء الذات) كما تُجيد حمل الخيبة.

التي تعتبر ملحمة داخلية، تعتمد على جهد يومي لتثبيت المعنى.

من الملاحظ إن حضور الاستعارات في النص ليس عاطفيًا بقدر ما هو بنائي؛ إذ تتكرر في شكل صور تُعيد رسم علاقة الذات بالزمن. والزمن (جرّاح بطيء) يعيد صياغة الوجع دون أن يشعر أحد، في هذه الصور، يعود النص إلى مركزه الأول: أن الألم مادة من مواد الهويّة. ليس عنصرًا طارئًا وإنما حجرًا من أحجار البناء الداخلي. وتعتمد الساردة على هذه الصور لتجعل خطابها يتجاوز البكائية نحو بناء رؤية تحوّل الألم إلى معرفة.

من الملاحظ أيضًا ميل المتن كذلك إلى توظيف التعليل الوجودي بوصفه آلية تُعيد ترتيب العلاقة بين الذات وزمنها الداخلي؛ فالساردة تُصاغ في هيئة كائن يسير محمولًا على قَدَرٍ يسبقها، غير أنّ هذا القدَر لا يُقرأ في صيغة استسلام، بل في صيغة (مواجهة هادئة) اللحظات التي ترد فيها أسئلة: لماذا أنا؟ ولماذا الآن؟ ولماذا كلُّ هذا الثقل؟ لا تُقدَّم كتعبير عن عجز، وإنما كاستدعاء لتاريخ طويل من التفكير، تاريخٍ يشتغل على تحويل السؤال إلى بوصلة سردية تُعمّق البناء النفسي للشخصية وهي هنا الشخصية المحورية في الحدث، هنا تتجلى وظيفة الأسئلة بوصفها فعلًا من أفعال المقاومة؛ فالسرد يعطي الانطباع بأنّ الذات تستعين بقلقها لكي تحافظ على تماسها بالعالم، وأنّ السؤال قوة بقاء لا قوة انطفاء.

من جهة أخرى، يتكثّف حضور (ثنائية الداخل/الخارج) داخل النسيج الشعوري للنص. الخارج يتمثّل في اليوم القاسي والخذلان والخيبات المتراكمة، أما الداخل فهو المكان الذي تُعاد فيه صياغة الألم ليغدو خبرة نضج.

هذا الترتيب يُظهر أنّ الساردة تتعامل مع الداخل بوصفه معملًا وجوديًا يعيد تدوير التجارب، ويُحوّل الصدمة إلى مادة للمعرفة، حين تقول: الأشياء التي تؤلمكِ اليوم ستنضج غدًا وتصبح خبزًا لقلبكِ، ليظهر المفهوم في صورة (استعارة معرفية) تُنقل فيها التجربة من كونها عبئًا إلى كونها غذاءً، وهذه النقلة هي جوهر التحوّل السردي؛ إذ يتقدم البناء تدريجيًا من موقع الوجع إلى موقع التأويل، ومن موقع الانكسار إلى موضع الوعي.

وإذا انتقلنا إلى البنية الإيقاعية للنص، نجد أنّ الساردة تُنشئ علاقة عضوية بين الإيقاع الداخلي والصورة النفسية؛ فالأفعال تتوالى ببطء محسوب لنجدها (أنحني، أبكي، أتألم، أضيء، أرتّب روحي، أحمل صبري… هذا البطء يُنتج ما يشبه النبض الوجودي، نبضًا يتيح للقارئ أن يتماهى مع حركة النفس وهي تحاول عبور المسافة بين الضعف والصمود، كما أن التدرّج في الأفعال لا يُقصد به تكرارًا إنشائيًا، بقدر ما هو إعادة بناء للوعي عبر الزمن، فالفعل في كل مرة يكتسب معنى جديدًا، لأنه يأتي محمولًا بتجربة أكثر عمقًا من سابقتها.

أما العلاقة مع الليل، فتتجاوز كونها علاقة استعارة تقليدية إلى علاقة تُعيد إنتاج الذات من داخل عتمتها، الليل يعمل كحاضنة معرفية تملك وعيًا كامنًا بالشخصية، ذاك الليل الذي يعرفني أكثر مما يعرفني البشر.، انسحاب الساردة إلى الليل ينسحب معه خطابٌ يسعى إلى تعريف النفس خارج أعين الآخرين، فالليل هنا فضاء ألفة لا فضاء خوف، ومساحة استبصار تتكشّف الذات فيها على حقيقتها. وبذلك يتحوّل الليل إلى مرآة وجودية تتخلّص فيها الشخصية من أقنعة النهار، وتستعيد صلتها بجذور القوة الداخلية.

تتّضح براعة النص من حيث التقنية في إدارة “الحكاية المؤجلة”؛ هذا الفرج الذي تنتظره الساردة لا يأتي، والزمن الذي يمرّ لا يمنح حلولًا مباشرة، غير أنّ هذا التعليق لا يُحدِث فراغًا سرديًا، وإنما يخلق مساحة للتأمل في فكرة (الزمن المعالج)؛ أي الزمن الذي يعالج بلا إعلان ولا ضوء، ويُعيد ترميم الشروخ دون حسم. بهذا المعنى، يصبح الانتظار في النص فاعلية وجودية، ويغدو الصبر حراكًا داخليًا لا يتوقف، على الرغم من أن الساردة تصفه في صورة طفل خائف تُحمله على ظهرها وتضمه، هذا التشخيص يمنح الصبر هيئة كائن هش، لكنه كائن يكتسب قوته من احتضان الشخصية له والتصالح معه، لا من أي ضمان خارجي.

ويتقدّم النص كذلك في مسار يزاوج بين (التجربة الفردية) و(التجربة الكونية)، فالساردة لا تُصاغ باعتبارها امرأة في قصة شخصية فحسب، بقدر وصفها نموذجًا إنسانيًا لامرأة تُعيد هندسة ألمها عبر (معرفة حميمية) بأعماقها؛ ولهذا تظهر الجملة، (أحسنتِ.

لقد صنعتِ من الألم جناحين).

وكأنها إعلان ميلاد جديد. الجملة لا تُختتم بمكافأة، وإنما بفكرة الارتقاء التدريجي، مما يؤكد أن الانتصار في النص ليس انتصارًا خارجيًا، بل انتصار على مستوى الوعي.

وقد نجح المتن في إبراز البطل السارد في صورة ذاتٍ تُمارس الاستباق من موقعٍ مُخضرم؛ فالاستباق لا يُقدم نهاية ولا يكشف قفلة، لكنه يُعلن بصيغة واثقة أنّ الطريق سيفتح، وأنّ القلب سيعود ويرتجف، فالمقصود هو تثبيت الإيمان الداخلي بالتحول، لا تقديم ضمانات منطقية للتحقق، وهنا يكمن جمال التقنية؛ لأنّ الساردة تمنح القارئ يقينًا روحيًا يتجاوز منطق الأحداث، فالسرد يعمل على «تغذية الأمل» من داخل بنية الألم ذاتها، ويصوغ زمنًا مستقبليًا لا يمكن الإمساك به، لكنه يظل حاضرًا في لا وعي الشخصية.

وعلى مستوى القراءة المنهجية، تتجلى أهم الحيل الفنية في التشكيل المتقاطع بين ضمائر السرد، والانتقال بين مستوى الفعل الداخلي ومستوى الفعل الخارجي. فالوصف النفسي لا يأتي مفصولًا عن الحدث، لأن الحدث نفسه ليس سوى انعكاس للداخل. وهذا ما يجعل النص قائمًا على نوع من (الدراما الصامتة)، دراما تشتعل في القلب وتظلّ محمولة على لغة خافتة ناعمة، من دون أن تفقد حدتها المضمرة.

بهذا كله يتبدى النص بوصفه تجربة شعورية مركّبة، متينة الصياغة، تُشيّد عالمًا متداخل الطبقات، تُدافع فيه الساردة عن حقها في الصمود عبر خطاب يتقدّم بثبات، ويمنح الألم معنى، ويحوّل الصبر من حالة انتظار جامد إلى حركة وجودية تشتغل داخل أعمق طبقات النفس الإنسانية.

 

عاجل !!