عدوى المشاعر والعواطف / رقية أبو الكرم / الجزء الثالث

هيئة التحرير28 أكتوبر 2025آخر تحديث :
عدوى المشاعر والعواطف / رقية أبو الكرم / الجزء الثالث

كيف تنتقل عدوى المرض النفسي

تعارف الناس عامة على أن العدوى في سائر الأمراض،هي انتقال المرض من العليل إلى السليم، بواسطة الجراثيم وما شابه؛ ولكن كيف يكون المرض النفسي معدياً؟ وهو لاينتقل بالجراثيم، إلا في أقل القليل، وإنما هو غالباً مظهرغير سوى للصراعات الداخلية، وعدم التكيف الخارجي.

ينتقل الحزن أو الوهم أو الشك أو الضلال من المريض إلى السليم، حتى يمكن القول بأن المرض النفسي قد يؤدي مثل سائر الأمراض، بالنسبة للأشخاص المهيئين.ويمكن أن تكون العدوى بالأمراض النفسية، أكثر احتمالاًمن أمراض عضوية كثيرة، بحيث يكون للانتباه إلى العلاج المبكر، فائدة مزدوجة في شفاء المريض، ووقاية من حوله في ذات الوقت. لقد عنينا أن ننص على لفظ(الأشخاص المهيئين)، وذلك لأن الناس يختلفون بالنسبة استعدادهم للإصابة بالمرض النفسي عن طريق العدوى،بقدر اختلافهم لقابليتها للاستهواء، ومدى ما يحملونه من أسباب مهيئة للمرض النفسي في نفس الوقت. فمن المعروف أن الإيحاء سهل بالنسبة للأشخاص ذوي الشخصية السهلة، التي تتأثر بالغير، وتحسب حسابهم،والتى تتقبل آراء الآخرين بسهولة ويسر، والتي لا تصبرعلى التمسك بالرأي طويلاً، وهذه كلها صفات غير مرذولةأساساً، ولكن المغالاة فيها قد توحى بما يسميه العامة(ضعف الشخصية)، وهو أن يكون الإنسان تابعاً في فكرهوتصرفه جميعاً، ولكن هذه التبعية ليست رذيلة بصورةدائمة، بل إنها تكون أحياناً مشكلة – بشكل ما – في عمليةالتكيّف، فالإنسان دائماً تابع حيناً ومتبوع حيناً آخر،ولكن التبعية المطلقة؛ والاستهواء المبالغ فيه هو ما يمكن أن يستنكره الناس، ويعتبرونه نقيصة يتبرأون منها، فمن قديم تفاخر الشعراء بعدم قابليتهم للاستهواء، كما في قول الشاعر العربى:

تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد

بعدوى، فما أعدتني الثؤباء

الشخص العادي قد يكون مهيأً للتقليد والإيحاء، سواء أ كان هذا الذي يوحى به (حركة) أم (سلوكاً) سوياً أممرضياً، ومن المتعارف عليه كذلك أن الخلق السيئ يعدي،كما أن الطبع الحميد يعدي، وقد شبهوا عدوى الأخلاق بالعدوى المرضية حرفياً:

واحذر مصاحبة اللئيم فإنها

تعدي كما يعدى السليم الأجرب

فإذا كان التثاؤب معدياً، والطبع اللئيم يعدي، فالمرض النفسي قد يعدي سواء بسواء، وهو معد فعلاً ولكن الشخص المهيأ فحسب. ولنضرب أمثلة لهذه العدوى بادئين بمرض الإيحاء الشهير (الهستيريا)، والهستيريا لاتعنى الجنون، ولا تعنى الهوس أو (الوش)، كما يحبالناس أن يطلقوا هذا اللفظ على أكثر من معنى، ولكنهاتعني مرضاً (نفسياً) – ليس عقلياً – تصدر فيه أعراض جسمية (كالنوبات أو فقد النطق) أو عقلية (كفقد الذاكرة)،دون إرادة المريض، بعيداً عن دائرة وعيه، هرباً من مواجهة موقف قاسٍ. وهذا المرض برغم بساطته وسهولة علاجهفي أغلب الأحيان، إلا أنه حاز شهرة تاريخية وشعبية لانظير لها. فمعظم القصص وروايات السينما، التي تحكي إزدواج الشخصية وفقدان الذاكرة والشلل المؤقت، مبنية على فكرة هذا المرض، بغير مبرر يتناسب مع مركزه بين الأمراض.

 

العقائد تنتقل بالعدوى

يمكن أن ننظر إلى المسألة من الجانب العقائدي لدى الإنسان، فالإنسان الذي يعيش في بيئة تؤمن بشيء وتكفر بشيء آخر، سيستقبل هذه العقائد تلقائياً بالعدوى، وهذا ما علمناه جلياً في مكة أيام الجاهلية، إذ كانت زاخرة بالشرك، يمارس أهلها عبادة الأوثان، وتنتقل هذه الممارسة من شخص إلى آخر، الأمر الذي عقـّد الدعوة الإسلامية في بادئ أمرها، فاضطر المسلمون إلى الهجرة صوب بلاد الإيمان، حيث يكون الجو أكثر ملاءمة لنشر عدوى إيمانهم. وهذا ما حدث في يثرب (المدينة المنورة) التي دب فيها الإيمان بعدوى منقطعة النظير، فدخل الناس في دين الله أفواجاً.

 

الاستفادة العملية من العدوى

من خلال مراكز متخصصة تدرس بعض الدول المتقدمة إمكانية ممارسة هذه الآلية؛ لتغيير اتجاه تفكير مجتمعاتها، نحو الاتجاه الذي ترغب فيه الحكومات. وتقدم هذه المراكز تقارير يومية إلى الحكومة تبين فيها المزاج العام للشعب في هذا اليوم، وهل يمكن أن تتخذ الحكومة قراراً ما، أو عليها أن تؤجله وفق المزاج العام. وتعتمد المراكز في استنباط معلوماتها هذه من مواقع التواصل الاجتماعي، وشبكات الاتصال وما إلى ذلك. حتى ليُخيّل للناظر بعمق، أننا في عصر الاتصالات،أصبحنا أكثر عرضة لعدوى المشاعر والعواطف.

عاجل !!