” الأخلاق سرٌّ من أسرار الوجود ” — عبارةٌ تلخّص الهاجس العميق الذي يحرك رواية واثق الجلبي ” كلكامش : عودة الثلث الأخير ” ، حيث يتحوّل الخلود من أسطورةٍ سومرية إلى سؤالٍ أخلاقيٍّ وفلسفيٍّ عن معنى الإنسان في زمنٍ فقد فيه العالم ملامحه الأولى .
العودة إلى الملحمة… بحثًا عن الذات :
لا يكتفي واثق الجلبي بإعادة تدوين ملحمة كلكامش الشهيرة ، بل يعيد ” توليدها من رحم المعاصرة ” ، محوّلًا الأسطورة إلى مرايا تكشف وجوه الحاضر المتناقضة . كلكامش هنا ليس ملكًا يبحث عن عشبة الخلود فحسب ، بل هو رمز لإنسانٍ مثخنٍ بالأسئلة ، يركض في زمنٍ اختلطت فيه الذاكرة بالحقيقة ، والخلود بالضياع .
الرواية تستثمر الإرث الميثولوجي لفتح حوارٍ مع الذات العراقية والعربية ، وتجعل من الماضي بوابةً لتفكيك الوجود لا لتجميله .
التقنيات السردية : بين اللقطة السينمائية واللغة الشعرية
يستخدم الجلبي في روايته ” تقنية اللقطة السينمائية ” ، ما يمنح النص إيقاعًا بصريًا يتيح للزمن أن يتناثر بين المشاهد ، وقد كتب الناقد مصطفى لطيف عارف :
” إن تقنية اللقطة السينمائية تمنح الروائي واثق الجلبي فرصة التحرر من القيود المكانية والزمانية في السرد ” .
هذا البناء يجعل القارئ يعيش تنقّلًا حرًّا بين الأزمنة ، وكأن المشهد يتبدّل على شاشة داخل الروح ، أما اللغة ، فهي تنساب بين النثر والشعر ، حتى ليبدو أن الرواية تُقرأ أحيانًا كقصيدة طويلة تتنفس بالحكمة والندم والرجاء .
كلكامش الآخر… الذات والمرآة :
يقدّم الجلبي بطله في صيغةٍ مزدوجة : كلكامش الأسطورة ، وكلكامش الإنسان المعاصر الذي يشبه الكاتب نفسه ، في هذا التداخل ، تتكشّف الأسئلة الكبرى :
من نحن بعد كل هذا الخراب ؟
وهل الخلود هو النجاة من الموت ، أم النجاة من الذاكرة ؟
وقد وصف الناقد جمعة عبد الله هذا الأسلوب بقوله :
” يأخذنا الأديب الروائي في دهشة الإبهار ، في صياغة جديدة خلاقة لرؤية لملحمة كلكامش ” .
البُعد الأخلاقي والفلسفي
الرواية ليست بحثًا عن الخلود بل عن ” جدوى الحياة نفسها ” ، فمجتمع ” أوروك الجديد ” في نص الجلبي ليس سوى صورةٍ مكرّرةٍ من أزمنة الخطيئة والضياع ، كل جيل يطارد عشبةً وهمية ويترك خلفه رمادًا من الحروب والعنف ، هنا تصبح الأسطورة ” وسيلة نقدٍ حضاري ” ، يواجه بها الكاتب العالم بجرأة ، محمّلًا نصّه بعبق الأسئلة الوجودية التي تُعيد الأخلاق إلى مركز المعنى .
لغة تميل إلى الشعر وجرأة تخرج من المألوف :
الجلبي يمتلك نَفَسًا لغويًّا يجعل الرواية أقرب إلى مناجاةٍ روحية ، جمل قصيرة ، مشحونة بالإيقاع والتأمل ، تصنع لحنًا داخليًا يعيد للقارئ شعور الملاحم الأولى ، وقد رأى النقاد في هذا الأسلوب ” خروجًا من مألوف السرديات العراقية ” ، واتجاهًا نحو كتابةٍ أكثر تمردًا على الشكل الكلاسيكي للرواية .
خاتمة :
إن ” كلكامش : عودة الثلث الأخير ” ليست روايةً عن الخلود بقدر ما هي عن ” الإنسان الذي يخاف أن يزول دون أثر ” .
هي عودة إلى الأسطورة من أجل فهم الحاضر ، وصوتٌ فلسفيٌّ يسأل عن معنى البقاء حين يفقد العالم بوصلة الرحمة .
إنها رواية تُخاطب القارئ كما تُخاطب التاريخ :
هل يمكن أن نولد من جديد ، لا بالدم ، بل بالمعنى ؟
بهذه الجرأة الفكرية والعمق الفني ، يقدّم واثق الجلبي واحدًا من النصوص العراقية التي تستحق أن تُدرَس لا أن تُقرأ فقط — نصًّا يجعل من الأسطورة أداة وعي ، ومن الحكاية ” جسرًا نحو الأخلاق التي هي سرّ الوجود الأول ” .