سقوط النجمة في جيب الزورق | للكاتب واثق الجلبي قراءة / داود السلمان    

هيئة التحرير19 أكتوبر 2025آخر تحديث :
سقوط النجمة في جيب الزورق | للكاتب واثق الجلبي قراءة / داود السلمان    

“جيب الزورق” هي أقصوصة من المجموعة القصصية (جنيّ الأكفان) للشاعر والقاص واثق الجلبي- تمثل مثالاً صريحاً على الكتابة القصصية الرمزية التي تتجاوز الواقع الظاهري لتغوص في طبقات أعمق من المعنى، عبر استخدام مكثف للصور الوصفية والانزياحات البلاغية. حيث يتعامل النص مع موضوعات متعددة مثل الخوف، الحب، الفقد، والرغبة في الخلود، لكنه لا يقدمها من خلال سرد خطي تقليدي، بل يطرحها في بنية مجازية مفتوحة تجعل من التأويل جزءاً من تجربة القراءة ذاتها.

وهنا يبدأ النص القصصي بجملة غامضة ومفاجئة: “بين عينٍ وشفة وقلوبٍ لاهثة تسقط النجمة في جيب الزورق”، وهي جملة تفتح الباب على رمزية مكثفة. النجمة، بما تحمله من دلالة على الهداية والجمال والعلو، تسقط، لكن ليس في الماء أو في الظلمة، بل في “جيب الزورق”، وهي صورة تبدو متناقضة لأنها تدمج بين المفرد والمجرّد. الزورق هنا ليس وسيلة نقل مائية فقط، بل كائن أو كيان له “جيب”، أي مساحة للاحتواء، وربما للافتراس. وهذه النجمة الساقطة ترمز إلى حلمٍ أو رغبة أو شيء سماوي يتم احتواؤه أو التهامه في سياق أرضي مشوّه.

يتبع النص القصصي بعد ذلك مسارًا من التداعي الحرّ، حيث تنقلب الموجودات على طبيعتها. “سمكة تحاول أن تصبح قرداً” في مفارقة وجودية تعكس قلق الكينونة، وانزياح الكائن عن هويته. ما يرسمه النص هنا ليس عالمًا طبيعياً بقدر ما هو كابوسي، تتحرك فيه الصور ضمن منطق داخلي لا يخضع للقوانين الفيزيائية أو الزمنية، بل لقوانين الرغبة والقلق والفقد. النخلة لا تبحث عن ماء أو ثمر، بل عن “خلود”، والزوارق المنسية تتحول إلى أفواه رمال، والشيخ الذي أحب أنثى انتهى في جوف حوت كمجرد “حبة ملح”. في هذه الصورة تتجسد مأساة الحب والخيبة، فالحب في النص لا يقود إلى التحقّق، بل إلى الذوبان والانمحاء. الأنثى، التي تبدو في البداية ككيان محاور ومحبّ، تتحول هي الأخرى إلى جزء من هذا العالم المتآكل. تحاول ستر عورة الرجل بقبلة رماد، وهي صورة تحكي عن علاقة قائمة على التلاشي والخذلان. القبلة هنا ليست حياة، بل رماد، والمحبّ ليس رجلاً، بل كائن محطم “يحطم أخشابه بعويل أبكم”.

ولا نكتم القارئ سرًا، إذ نقول بأن هذا النص القصص، يحيلنا الى الكوابيس الكافكية، تلك الكوابيس التي عودنا كافكا على طرحها.

وفي نهاية الاقصوصة، يتكثف الشعور بالاغتراب والخذلان، حين تجد الأنثى صدرها مكشوفاً أمام الزوارق وساقها معطلة إلا بـ”ختم الأواخر من أصداف الأوجاع”. هذه الجملة بالغة الكثافة، تعني أن جسدها نفسه قد صار خريطة ألم وخاتمة رحلة. ولحظة إخراجها “جيبا من جيبها”، الذي وجدته يحوي إصبعها وهو يمسك بوجه الحبيب “بلا شفتين”، توصل القارئ إلى ذروة العبث الرمزي: الحبيب بلا شفتين لا يستطيع التعبير أو الحب أو حتى الردّ، وهي تمسك بوجهه في صورة من الحنين المستحيل.

وبالتالي، الأقصوصة تنتهي بتحول الأنثى إلى “وردة نوتيٍّ لا يرغبها القدر”، وهو ختام شديد السخرية والمرارة. فهي تتحول إلى رمز للجمال والانتظار، لكن في ذات الوقت تُقصى عن مصيرها، لا يُراد لها أن تُقطف، لا لأن الزمن لم يحن، بل لأن “القدر” ذاته لا يرغبها. هذه نهاية تُعيد إنتاج معاناة الكائن الأنثوي في نصوص الوجود الإنساني المأزوم.

باختصار شديد، “جيب الزورق” قصة غارقة في الرمزية، تنتمي إلى أدب ما بعد الحداثة في تقنيتها، لا تقدم حكاية واضحة بل انفعالات وهواجس وصوراً تتناسل عبر اللاعقلاني والغامض، مما يجعلها نصاً مفتوحاً على أكثر من قراءة، ومرآة لانهيار المعنى في عالم لا يُهدي نجومه، بل يسقطها في جيوب النسيان.

جيب الزورق

بين عينٍ وشفة وقلوبٍ لاهثة تسقط النجمة في جيب الزورق ، لن تجد نخلة يتيمة تبحث عن خلود ، كل شيء حول خصرها يريد أن يعيش ، نهرٌ يتلمظ وشاطئ مخبول وسمكة تحاول أن تصبح قردا ، يا لهول الزوارق المنسية ، جيوبها أفواهُ رمال شيخٍ عتيق أراد أن يعشق أنثى فكان مصيرهُ حبة ملحٍ في جوف حوتٍ لا يعلم أنه في الماء . تتراءى لهما النجوم مقلوبة الأثداء فتنهره كي لا يمسك نعومة الكذب على ارتعاش الرجيف ، مضتْ تستر عورته بقبلة الرماد لكنه انزاح للزورق يحطم أخشابه بعويلٍ أبكم . حاورته مجنونا وضمته جمرة خوف من ضياع انتبهتْ على نفسها فوجدت صدرها مكشوفا لتلك الزوارق كلها وساقها لم تعد تعمل إلا بختم الأواخر من أصداف الأوجاع ، أخرجتْ من جيبها جيبا فوجدت فيه إصبعها وهو يمسك بوجه حبيبها الملقى على أحد الزوارق بلا شفتين ، قبّلتْ لوحا وصارت وردة نوتيٍّ لا يرغبها القدر .

عاجل !!