يشكّل معرض بغداد الدولي للكتاب (الدورة 26) محطة ثقافية بارزة، تجمع بين التنوع المعرفي والتجارب الأدبية التي تتجاوز حدود المكان والزمان. ومن بين الإصدارات التي لاقت اهتماما خاصا، كتاب “نخلة وزيتونة ومنارة” للكاتب والأكاديمي د. محمد فلحي، الذي يسرد في جزئه الثاني تفاصيل رحلته إلى ليبيا، بعد أن قدم في الجزء الأول ملامح من سيرته الذاتية منذ الطفولة، مرورا بمرحلة الدراسة الجامعية، وانتهاء بتجارب الاعتقال والموت المعلق على سكة القطار.
*بين عمان والقاهرة
يفتتح الكاتب هذا الجزء من رحلته بالانتقال إلى العاصمة الأردنية عمان، حيث يسرد تفاصيل المعاناة التي مر بها العراقيون على الحدود إثر تفجير فندق بالعاصمة الأردنية، وهو الحادث الذي أودى بحياة المخرج العالمي مصطفى العقاد. يقارن فلحي بين حجم التنديد الواسع الذي حظي به ذلك التفجير في الأردن، وبين الصمت الذي كان يواجه به العراقيون التفجيرات اليومية في بغداد.
كما يروي ما عاناه من تمييز على متن العبارة التي أقلته من ميناء العقبة إلى ميناء نويبع، حيث احتجزت جوازات العراقيين وحدهم. وتستمر سلسلة المفاجآت عند وصوله إلى مصر، إذ وجد نفسه محاصرا مع أسرته الصغيرة في أجواء أقرب إلى السجون، بسبب حادث أمني في شرم الشيخ.
*لمحات تاريخية ذكية
ورغم الأوضاع الصعبة، لم يغفل الكاتب عن استثمار رحلته لنقل ومضات تاريخية عن المدن التي مر بها، خصوصا القاهرة، التي قدمها بوصفها مدينة التاريخ والفكر والفن، مستعرضا أسماء بارزة شكلت وجدان الأمة مثل المعز الفاطمي، صلاح الدين الأيوبي، طه حسين، العقاد، قاسم أمين، أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، يوسف شاهين وغيرهم. هنا يقترب النص من روح أدب الرحلات، حيث يمزج بين المشاهد الواقعية والانطباعات الثقافية.
*التاريخ والسياسة في ليبيا
لكن الوجهة الأساسية للرحلة تبقى ليبيا، حيث ركز فلحي بشكل مكثف على المشهد السياسي الليبي في ظل حكم القذافي، متناولا تحولات الثورة، طبيعة النظام الجماهيري، قضايا النفط، والأخطاء القاتلة للزعيم الليبي. ورغم أهمية هذه القراءة التحليلية العميقة، إلا أنها طغت على الجوانب الجمالية لأدب الرحلات؛ مثل وصف المعالم الأثرية، التراث الشعبي، العادات الاجتماعية، والفضاءات الطبيعية، عدا إشارات محدودة حول طقوس الزواج والتعليم الجامعي.
وتبرز عناوين الفصول كدليل على انحياز النص نحو التحليل السياسي أكثر من كونه نصا رحليا خالصا:
- الثورة ضد زعيم الثوار
- حصاد الجماهيرية العظمى
- النفط مقابل البقاء
- أخطاء الزعيم القاتلة
- قضايا غامضة
- العودة إلى بغداد
خاتمة
يمكن القول إن كتاب “نخلة وزيتونة ومنارة” يمثّل تجربة متفردة بين السيرة الذاتية وأدب الرحلة والتحليل السياسي. فقد نجح د. محمد فلحي في توثيق أحداث مضطربة من تاريخ العرب المعاصر، لكنه في الوقت نفسه ابتعد عن جوهر أدب الرحلات الذي يقوم على إبراز جماليات المكان وتفاصيل الحياة اليومية. وبذلك يظل الكتاب وثيقة سياسية وشخصية، أكثر منه نصا سياحيا أو أدبيا خالصا، مما يفتح النقاش حول الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية المختلفة.