بدأ المساء يسدل ستاره وينسحب الضوء خجولا على ذلك الممر المؤدي لساحة وقوف الحافلات , كان ينظر لأبيه تصارعه افكار تعاظمت ببئر وجدانه صار الرجل كبير السن وزادت احتياجاته الصعبة والابن لا يحمل ذلك القيد الموجع الذي تصوره عائقا لحياته الترفة الجديدة, نسي انه أباه وتغافل انه الاب الذي جعله يعيش ذلك الترف , كان الاب يسير بتؤدة ينقل قدماه بصعوبة عبر الطريق الذي ابتلعت جلهُ العتمة .
:- ابي ..خذ هذا الهاتف وانتظرني هنا لغاية ايجادي الحافلة التي توصلنا لمسكني واذا تأخرت رن علي لأطمئنك وارشدك الى الوجهة التي ننطلق بها . قالها وهو يدس بيد والده هاتفاً قديماً نظر الوالد للهاتف ممتعضا
:- لماذا لا ارافقك . قالها بصوت واهن وهو يتفحص وجه ولده المتجهم .
:- ابي ..لقد اتعبك السفر وهنا المراب ليس كما هو ببلدنا , ان صاحبتني سنتأخر وسنقضي ليلتنا هنا ,انا اسرع منك وسأوافيك حين اؤمن سيارة نصل بها الى مكاني . كانت نظرات الاب حائرة شاردة جلس وهو ينظر للهاتف يترقب اتصال ولده . سرح الرجل الكبير بالماضي وكيف كانت أيامه شاقة من اجل ولده وما قدمت والدته له من عطاء والتي فارقت الحياة منذ مدة قريبة كانت تعشق الصبي وتقدم له كل ما يسعده حتى تخرج ونال شهادة الدكتوراه وتزوج من اجنبية بعد ما فارق البلد وبقي تواصله شحيحا وسؤاله نادرا لكن امل الاب به كان كبيرا ان يحتضنه بعد ضياع العمر وسقم الوحدة . كانت عيناه تتجول بين الفينة والاخرى يفتش عن ولده الذي امتصه المكان وزاد قلقه طول غيابة وافتقار المكان من الناس الا قليل ممن يسرع بحركته , بدأت خواطره تؤرقه وكلما هم بالضغط على الاتصال بالهاتف يتريث تحسبا بعودة ولده ويضيف وقتا اخر للانتظار , مرت الساعات ثقيلة بدا الاب مشوشا وعلامات القلق تُرسم على وجهه الذي خطت عليه الايام تجاعيدها العميقة , نفذ صبره وتحركت يده وضغط على زر الاتصال قرب الهاتف من اذنه ,سمع صوتا يخبره ( ان الرقم الذي طلبته خارج الخدمة ) دبت بجسد الرجل صعقة سقط اثرها الهاتف من يده لكن دمعته وصلت للأرض قبل الهاتف .