ظل التوت
1
رقية أبو الكرم
التوت المتناثر تحت ظلال الشجرة، يجذب أمي أكثر؛ لتلتقطه من الأرض وتمضغه بتلذذ. تمسك الغصن بيدها البضة، تهزه بضحكة مكتومة فيتساقط عليها التوت، تلمه مع البهجة في صحن كبير. كل شيء خالد في ذاكرتي، حبات التوت الأحمر الناضج، تشتهيه النفس وتهفو إليه. عرائش العنب، صوت حفيف وريقاته؛ يرن كجرس في أذني. تلك الأصوات والصور تعيش معي، ولا تكاد تفارقني، كما هو ظلي الذي يطاردني مذ كنت في الرابعة من عمري، وأنا أحني ظهري، ألملم التوت في حِجري، أملأ كفيّ منه وألتهمه قضمة واحدة، ليترك آثار العفوية على شفاهي، وبقعًا أخرَ على خديّ الطفلين.ظله الأسود يقترب مني أكثر، وأنا ألتصق بأمي أكثر. كلما اقترب ظله، زدت التصاقًا وعلا صراخي. اصفرّ وجهي، ثم بدا أفقع صفرة. امتدت يد الظل نحوي، راحت تدغدغني، من أسفل قدميّ، وصراخي المفزع يعلو، حتى أفلتت طرف الثوب من يدي، وتناثر التوت من حِجري.تقافزتْ حباته حولي، انكسر الصحن الكبير، تناثر قطعًا قطعًا. تلقفتني أمي في حضنها، شدت عليّ بيديها، حملتني وركضتْ بي إلى داخل الدار، فركتْ رأسي ودلّكتْ صدري، قرأت ونفثت في وجهي:
– بسم الله الرحمن الرحيم… قل أعوذ برب الفلق… قل أعوذ برب الناس.
تفتح أمي عينيها مفزوعة مما أصابني، تمسك ذراعيّ، تهزني قائلة:
– ما أصابك يا بنت؟! منذ برهة كنتِ تلعبين تحت ظل الشجرة!
تشدني إلى صدرها الحنون، تشد عليّ أكثر حتى يهدأ روعي. ثم أقص عليها ما أفزعني بصوت خائف مرتعش:
– كان هناك يا أمي… اقترب منك، وقف أمامك… مد يده أسفل قدميّ ودغدغني.
أقولها وأنا أشير إلى أسفل قدميّ، ولوني مخطوف، ويداي باردتان، بدتا كقطعتي ثلج بيضاوين، بلا دم ولا حياة.
ترد عليّ أمي بنظرة وجلة، وخوف تخفيفه تحت جفنيها:
– من هو يا نهلة؟
أجيبها وأنا أوشك أن أنهار بكاءً:
– ظل التوت يا أمي.
تنظر إلي بشفقة وخوف، تهزني في حِجرها، تمد يدها نحو شفتيّ لتمسح بقع التوت. يسرقني النوم في غفوة على رائحة حِجرها الدافئ، تعاود عليّ ما قرأته، مرارًا وتكرارًا، حتى سرى الدم في وجهي، وسخنت يداي، وهدأت رعشتي. فراشي الدافئ يعبق برائحة الحنان، أدس رأسي تحت لحافي المزركش، وبنظرة متفحصة؛ تزوغ عيناي إلى أمي وضيفتها (بثينة). تتناهى إليّ أطراف حديثهما، حبات زهرة الشمس تتكسر بين أسنان بثينة، وهي تقذف بالقشرة أبعد من المنفضة. ترمقها أمي بنظرات حذرة، محاولة تنبيهها إلى تضايقها من القشور المتناثرة على الأرض.
تحمل بثينة الكثير من المكر والدهاء، تتعمد المراوغة، تهوى الاستفزاز. كانت أمي تهوى سهرات بثينة، وتتجنب دعوتها. مجيء بثينة يتكرر عند كل مساء، تأتي حاملةً كيس اللب، وقصص الرعب التي ترويها لأمي. أسترق السمع وأرتعد خوفًا؛ كأنه يسمعها وهي تروي عنه حكايات (الظل العاشق)، الذي يجوب المَزارع باحثًا عن طفلة يداعبها:
– كان التوت ما يجذب الظل، وهو عاشق التوت، كل من تقترب من التوت؛ يسرق عقلها.
قالتها بثينة وعيناها مفتوحتان باتساع، وحاجباها معقودان. تسربتْ الكلمات إليّ، مخرت أذني وعادت بذاكرتي إلى ذلك الظل الذي كان يدغدغ أسفل قدميّ، عند شجرة التوت، يوم كنت أجني التوت مع أمي.
ما زلت أنصت الى حديث أمي والجارة؛ فجأة يقترب مني مواء قطط تحوم حولي، فوق رأسي، على فراشي، قرب وجهي. اختلط مواء القطط بلمسات يدين تدغدغاني من أطراف جسمي، تلمسان وجهي، كأنهما تطلبان مني اللعب.تتسارع ضربات قلبي، أحس بأنفاس تنفث قرب أذني، أرتعش في فراشي، أتصبب عرقًا، يصفر وجهي؛ فيثير انتباه بثينة صديقة أمي. تشير إلي، تنادي على أمي لتنتبه لما يحدث لي، أحس بيدي أمي تهزانني بقوة، ثم تصرخ بوجهي:
– نهلة… نهلة اصحي يا ابنتي!
ما إن لامستني يدا أمي حتى انفجرت بنوبة بكاء، كانت بثينة تنظر إلي بنظرة عجب واستغراب، رفعتني أمي وضمتني إلى صدرها، رحت أقص على أمي ما مر بي من أصوات قطط، ولمسات أصابع تتحسس جسدي وتدغدغني، وأنفاس تنفث عند أذني. حينها أصرت بثينة أن كل ما يقال عن هذه المزرعة حقيقة، وليس بخرافة، عن الظل العاشق والسيدة التي كانت تسكن هذا المنزل؛ وقد قُتلت، وهي الآن تجوب المكان وتفزع كل من يقترب من المنزل. لم تصدق أمي حكايات بثينة، بل راحت تشكك بكل ما قالته، وقالت إن ما أصابني رعشة حمى ونوبة فزع من حكايتها.
في اليوم التالي جعلتني فرحتي أتقافز على السرير مبتهجة، حين سمعت أبي يقترح على أمي أن نترك المزرعة وهذا المنزل المشؤوم، وننتقل إلى منزل آخر ابتاعه لنا، وراح يصف لأمي مدى اتساع الغرف التي فيه، وأشجار العنب التي تلف سقوف ممرات الدخول، وارتفاعه عن الشارع الذي يضفي على البيت هيبة، وعلى ساكنيه رفعة ومنزلة. كل تلك المغريات جعلت أمي توافق على الفور، وتحزم الأغراض، وتستعد للرحيل إلى المنزل الجديد، وكُروم العنب التي أحلم بها تتدلى بعناقيدها المتلألئة.
جميلة تلك الليالي الصيفية التي نقضيها في حديقة منزلنا الجديد، والأجمل كرمة العنب، التي طالما شدتني إليها، وصوت حفيف أوراقها يعزف لي حتى أنام تحتها، بجانب أخواتي وإخوتي، ثم تغطينا أمي، لنكمل نومتنا حتى تداعبنا خيوط شمس الصباح.
في إحدى الليالي الصيفية، حيث اعتدتُ أن أنام بين إخوتي، أفقت على حفيف الأوراق تصحب ظلًا أسودَ يقف فوق كرمة العنب، كأنه يقطف العنب، ينتقل من مكان إلى آخر بسرعة، راقبته من تحت الغطاء، التصقتُ بأختي الأكبر التي تنام بجانبي، همستُ في أذنها:
– هل ترين ذاك الظل الذي يمر من فوق كرمة العنب؟!
ردت علَيَّ بضجر:
– لا أرى سوى أنك تهذين… نامي بهدوء ودعيني أنام، ليس هناك سوى حفيف وريقات العنب بفعل الهواء.
سمعتْ أختي حفيف الأوراق، وظنت أن الهواء من حرك الورق. ولم ألحظ ليلتها أي هواء يهب ويحرك الأوراق! كان الليل ساكنًا هادئًا، والريح تكاد تكون منعدمة. لم يكن هناك سوى ظل أسود يقفز بين أغصان العنب، ويتحرك بسرعة أفزعتني.
يتبع