قراءة نقدية في:” القصيدة والأم الثكلى الأسطورة” للشاعر: جبو بهنام بابا / جليلة المازني

هيئة التحريرمنذ 3 ساعاتآخر تحديث :
قراءة نقدية في:” القصيدة والأم الثكلى الأسطورة” للشاعر: جبو بهنام بابا / جليلة المازني

التصدير:

يقول الشابي:

يا موت قد مزّقت صدري   و قصمْت بالأرزاء ظهري

وبلوتني فيمن أحبّ     ومن إليه أبثّ سرّي

تندرج قصيدة  الشاعر جبو بنهام بابا ضمن غرض الرثاء في الشعر في شكل مناجاة:

– خصائص الرثاء:

و”الرثاء هو ثناء الشاعر ومدح الميّت وذكر خصاله الحميدة…والرثاء يحمل الكثير من المشاعر الصادقة والمؤثرة في النفس عند سماعها وعدم التصنع في الشعر حتى لا تخرج القصيدة عن مغزاها الأساسي وهو رثاء الميت. وتبدأ القصائد الرثائية غالبا بمخاطبة العين وطلب البكاء منها على فراق الميت”.

والمعروف أن الرثاء هو صوت البكاء مع الحركات والكلام على الميت مع ذكر محاسنه والصفات الانسانية النبيلة فيه فالرثاء مدح صادق لمحاسن الميت.

– المناجاة: (لغة) من ناجى فلان فلانا أي حدثه سرّا وقد قال تعالى في سورة المجادلة الآية (9) :”يا أيها الذين آمنوا اذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبرّ والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون”

القراءة النقدية :” القصيدة والأم الثكلى الأسطورة”

1- العنوان: “فيروز تناجي ابنها زياد”

لقد قام العنوان على فعل مناجاة الفنانة القديرة فيروز لابنها الفقيد زياد.

وناجى يناجي حسب معجم المعاني الجامع – معجم عربي عربي: سارّه بما في قلبه من أسرار أو مشاعر, وخصّه بالحديث.

ماهي أسرار قلب فيروز التي ستحدث بها ابنها الفقيد زياد؟

2- التحليل:

لقد تواتر غرض الرثاء بين الشعراء قديما.

يقول علي ابن أبي طالب في رثاء فاطمة:

ألا أيها الموت الذي ليس تاركي   أرحني فقد أفنيْتَ كل خليل

– يقول الشاعر ابن الرومي في رثاء ابنه محمد:

بكاؤكما يشفي وان كان لا يجدي    فجودا فقد أودى نظيركما عندي

بُنيّ الذي أهْدتْه كفاي للثرى   فيا عزة المُهْدَى ويا حسرة المُهْدِي

طواه الردى عني فأضحى مزاره   بعيدا على قرب قريبا على بعد

ثكلت سروري كله اذ ثكلته  وأصبحت في لذات عيشي أخا زهْد

– يقول الحصري القيرواني في رثاء ابنه :

أعبد الغني إبني الى ربك الرجعى  فكن شافعي عند الذي أخرج المرعى

أنا الان اذ أودى وأودعته الثرى  وأبقت شعوب في شعوب العلا صدعا

أبيت خليّا من حديث حوادث  تسوم بناني العضّ أو سنّي القرعا

مضى أنس أوطاري فيا حزني  ويا جزعي ما أوحش الحزن والجزعا

وضعتك تحت الأرض والمجد راغم  وما كنت فوق النجم أرضى لك الوضعا

عليك سلام الله من متفجّع  مع الورق يبكي كلما هتف سجعا

وفي هذا الاطار فإن الشاعر قد جعل فيروز لا تشذّ عن القدامى في الرثا ء بيد أنها جعلت رثاءها مناجاة.

ولعل الشاعر جبو بنهام بابا أراد أن يرتقي بالفنانة فيروز التي ملأت الساحة الفنية وشغلت المعجبين بها و بابداعها الفني ويحوّل رثائها الى مناجاة فتترفع عن الرثاء بالصوت والحركات ليكون الرثاء مناجاة راقية استجابة لوقار الأم فيروز لقد توزعت هذه المناجاة بين:-  الفراغ والرغبة.

– تفريغ الاحزان وتخليد الذكريات .

– التأمل في الحياة  والموت.

فيما تجلت هذه الثنايات؟

تجليات الثنائيات بالقصيدة:

1- الفراغ والرغبة:

استهل الشاعر بنداء مبني على حذف حرف النداء (زياد) والشاعر حذف حرف النداء(يا) تقديرا لنفسية وحالة الأم المتألمة وهي غير قادرة على الكلام والتي لا تصدق إن كان ابنها زياد موجودا أمامها أو هو بعيد عنها .

ان الشاعر باستخدام أسلوب انزياحي تركيبي قائم على الشرط يجعل الأم  تتمنى لو يعلم ابنها بهول فاجعتها ليرحم روحها.

والتمني يفيد طلب المستحيل.

لذلك كانت بين الفراغ وانعدام وجوده والرغبة الملحة في رحمة روحها .

وبين الفراغ والرغبة فهي تعيش مأساة المستحيل.

جعل الشاعر الأمّ فيروز تخاطب ابنها الفقيد زياد مستخدما تركيبا شرطيا فتقول:

زياد لو تعلم لما أزدت فجعتي  لرحمت فيروز وروحها المعطارا

لقد جعل الشاعر الأم فيروز تسرّ لروح ابنها الفقيد وجعها بعد رحيله هذا الوجع الذي سلبها الرحمة وأوجع روحها.

ووجع الروح هو أنين قلب صامت يأبى أن يبوح بالألم و بكاء قلب دون دمعة

وهذا الألم الصامت كيف ستتخلص منه الأم فيروز؟

ان هذا الفراغ الذي تعيش الأم قد عبّر عنه الشاعر بامتياز باستخدام الفعل الماضي الناقص (كنت) والأم تشكو هذا الفراغ في الحاضر وتتمنى لو يتماهى الحاضر مع الماضي ليعيد اليها الضياء والنور وتستعيد بهجتها وفرحها.

انها ستبوح بهذا الوجع الروحي المكتوم.

انها بين كتمان وبوح وبين مناجاة ورثاء..انها ستتنفس برثاء ابنها الفقيد وهي تناجيه  فيقول الشاعر على لسانها مخاطبة ابنها الفقيد:

كنت عيني ونورها وحشاشتي

نبراسها وزقزقة الأطيارا

ان الام فيروز ترثي محاسنه فهو العين التي ترى بها وهو فرحها فبدونه أصبح الكون ظلاما وفقدت بفقدانه حاسة البصر وحاسة السمع وفقدت مشاعر الفرح إنها جسد بلا روح وقلب بلا مشاعر وحواس لا وظيفة لها فلا عين ترى ولا أذن تنعم بما تسمع.انه فراغ من روحها ومن حواسها ومن مشاعرها.وفي هذا الاطار فان الأم فيروز ستواصل في ذكر محاسنه مناجية إياه لعلها تنفس عن وجعها :

2- تفريغ الأحزان وتخليد الذكريات:

تقول الأم فيروز:

ابكي الحانك التي قد علّمت   وكنت لهم كوكبا غرارا

ويلاه من فقدي ابني زياد أنه   لأعد في تأبينك الأسفارا

ان الأم فيروز تبكي ألحان ولدها في أغانيها التي ستفتقدها بفقدانه وكأني بالأم فيروز ترثي نفسها وترثي ما افتقدته برحيله الأبدي.

وأكثر من ذلك فالأم فيروز تقف عاجزة لتأبين ابنها الفقيد وامكانية ذكر كل محاسنه وهذا من شأنه يخلد الذكريات معه.

ان ذكريات الأم فيروز مع ابنها بدأت منذ كان عمره سبعة عشر عاما حين بدأ بتلحين أول أغنية لها (سألوني الناس).

وفي خضم هذا الفراغ الذي تعيشه الأم فيروز و هذه الاحزان التي تشعر بها والذكريات التي تريد تخليدها فان الشاعر قد انتشلها من بؤرة الفراغ والحزن ليجعلها تعيش لحظة تأمل :

3- التأمل في الحياة والموت:

يقول الشاعر:

زياد هل بكت الحمامة الفها   الرب ينعش الأرواح والأسرارا

ادعو الفؤاد ان يعين عواطفي   نزف الوريد بعد فقدك  مدرارا

كأني بالشاعر قد حاول أن يعيد الأم فيروز الى وعْيها بمدى قصر الحياة لان الموت حق ولا هروب منه وقد جعلها تستحضر مثل الحمامة التي تبكي إلفها وعبارة “الحمامة تبكي” حسب بعض الباحثين “هي صورة أدبية في الشعر العربي تستخدم  لوصف صوت هديل الحمامة الذي يفسره الشاعر على انه بكاء أونوْح أو غناء حزين تعبيرا عن مشاعره وتجاربه كالحنين والفراق والغربة…”ان الشاعر قد جعل الأم فيروز لا تنفك عن مناداة ابنها زياد كأني بها توهم نفسها بحضوره قريبا منها أو أمامها.وباستخدام أسلوب انزياحي دلالي قائم على الاستفهام (زياد هل بكت الحمامة إلفها ؟) قد يجعل الأم تستنكر بكاء الحمامة مما يدعم صبرها وإيمانها بان الله ينعش الأرواح ليجعلها قوية ومتعالية عن البكاء.وهل أكثر من أنها تدعو القلب أن يوقف نزف الوريد.والعلاقة بين القلب والوريد هي علاقة عضوية حياتية تتمثل في نقل الوريد الدم المؤكسج (الغني بالأكسجين) من الرئتين الى القلب(الأذين الأيسر).

ان الشاعر قد صوّر وجعها بنزيف بالوريد وهي تدعو قلبها لايقاف هذا النزيف ايمانا منها بحق الحياة مقابل حق الموت.

ان الشاعر قد جعل من هذه الأم الثكلى (فيروز) أسطورة في مناجاتها لابنها الفقيد وفي صبرها وفي تأملها الواعي.

وقد يستحضر القارئ ما قاله أبو العتاهية في رثاء نفسه  قبل موته للاقناع بأن الموت حق ولا مهرب منه:

رأيت المنايا قسّمت بين أنفس  ونفسي سيأتي بعدهنّ نصيبها.

أيا هادم اللذات ما منك مهرب  تحاذر نفسي منك ما سيصيبها .

واني لممّن يكره الموت والبلى  ويعجبني روح الحياة وطيبها .

سلم قلم الشاعر جبو بنهام بابا الذي جعل من هذه الأم الثكلى أسطورة تحول الرثاء الى مناجاة وتحول الفراغ والحزن الى تأمل ينتشلها من بؤرة الحزن العميق الى الايمان بحق الموت وحق الحياة.

لروح الفقيد السلام والرحمة ولأمّه الصبر ولنا العبرة بعظمة هذه الأم الثكلى الأسطورة .

القصيدة: جبو بهنام بابا:

فيروز تناجي ابنها زياد

زياد لو تعلم لما أزدت فجعتي  لرحمت فيروز وروحها المعطارا

كنت عيني ونورها وحشاشتي  نبراسها وزقزقة الأطيارا

فدوى الكبير زياد من كان لي   من بعد فقده صاحب الأنوارا

ابكي الحانك التي قد علّمت   وكنت لهم كوكبا غرارا

ويلاه من فقدي ابني زياد أنه   لأعد في تأبينك الأسفارا

زياد هل بكت الحمامة الفها   الرب ينعش الأرواح والأسرارا

ادعو الفؤاد ان يعين عواطفي   نزف الوريد بعد فقدك مدرارا

عاجل !!