لوحة ومعنى / رياض العلي

هيئة التحريرمنذ 3 ساعاتآخر تحديث :
لوحة ومعنى / رياض العلي

تحمل هذه اللوحة عنوانًا شاعريًا وحزينًا في آن: “لم يأتِ صباحٌ إلا وانكسر قلبٌ مع حلول المساء”، وقد أنجزها الفنان الإنجليزي والتر لانغلي عام 1894. العنوان وحده يفتح بابًا واسعًا للتأويل، إذ لا يصف حدثًا محددًا بقدر ما يلخص مأساة متكررة، تلازم حياة البحر وأهله؛ مأساة انتظار محفوف بالقلق، وخسارات يومية تتوزع بين الموج والعاطفة والغياب.

لانغلي، الذي يُعد أحد أوائل رسامي مدرسة نيولين في كورنوال، تفرّد برؤية جمالية تمزج بين صدق المشهد الواقعي وحساسية شاعرية تنقلنا إلى عمق التجربة الإنسانية للطبقات العاملة. لم يكن البحر عنده مجرد خلفية طبيعية أو عنصر جمالي، بقدر ماكان قوة غامرة ومهدِّدة، حاضرة في كل تفصيلة من حياة الصيادين وعائلاتهم. فهو مصدر الرزق الوحيد، لكنه أيضًا مصدر الخوف والفقد، ومن هنا جاءت واقعيته محمّلة بوعي تراجيدي بالوجود.

اللوحة في بعدها البصري لا تكتفي بتسجيل صورة فوتوغرافية للحظة حزن، أنما تنسج من خلالها دراما صامتة: وجوه متعبة، أجساد مثقلة بالانتظار، أفق رمادي يشي بالخطر الكامن في الأعماق. كل خط لوني فيها يحمل شحنة وجدانية، كأن الفنان يرسم أثر البحر في النفوس. ولعل أعظم ما يميز هذا العمل هو أنه يحوّل المأساة اليومية المألوفة ـ موت صياد أو غرق مركب ـ إلى قصة إنسانية كونية، يفهمها كل من عرف معنى الغياب أو فقد عزيز.

لانغلي تجاوز النزعة التوثيقية البحتة التي وسمت أعمال بعض معاصريه، ليؤسس في هذه اللوحة نوعًا من الواقعية الشعورية. فهو لا يرسم البحر والبيوت والشخوص كما هي، لكن كما تعيش في وجدان أهلها: البحر مرآة للقدر، والبيوت مسارح للانتظار، والوجوه تجسيد حي للهشاشة الإنسانية أمام جبروت الطبيعة. بهذا المعنى، فإن اللوحة تحمل بعدًا فلسفيًا عن العلاقة بين الإنسان والقدر، بين العمل الضروري للبقاء والقوة التي تهدد هذا البقاء نفسه.

لقد جعل لانغلي من الريشة وسيلة لتوثيق مأساة جماعية، وفي الوقت نفسه، أداةً لصياغة خطاب إنساني يتجاوز حدود المكان والزمان. فاللوحة، وإن ارتبطت بسواحل كورنوال في أواخر القرن التاسع عشر، إلا أنها تعكس حقيقة أوسع: أن كل صباح يحمل إمكانية الفقد، وأن قلب الإنسان لا ينكسر دفعة واحدة ، أنما على مهل، مع كل مساء يمر دون عودة المنتظرين.

عاجل !!