مناولة الجمال  بين واجهات الشكل  وبين غائص البطانات .. أين أنت .. نص للشاعرة نغم العيساوي | قراءة / حميد العنبر الخويلدي  

هيئة التحرير4 أكتوبر 2025آخر تحديث :
مناولة الجمال  بين واجهات الشكل  وبين غائص البطانات .. أين أنت .. نص للشاعرة نغم العيساوي | قراءة / حميد العنبر الخويلدي  

اي مناجاة هذي التي ترددُها الشاعرة نور البابلي ، وهي في طقس تتهيّأُ به لابتداع مخلوق نصّيٍّ محدث جديد على وجوده وموجوده ، يا ترى هل فكّرت الشاعرة تفكيرا قبل حين من صنعتها النتاج ،،،؟  وهل المبدع يفكّر في حاله قبل دخوله موقف الخَلق الشعري ،،،؟ باعتبار أن كتابة القصيدة كذلك فعلٌ يشبه ايَّ فعل في الواقع المادي أو الاعتباري ،  نقول قد يكون ذلك – ونعني به التفكير والاستدعاء التخيُّلي – في كل شيء من الفنون إلّا في الشعر  فالشعر له خصوصية ، كونه غَوصاً وهجرةً وراء جلدة الوجود ، يصحُّ أن نقول عن الشاعر أثناء كتابته للنص ، نقول دخل طقسَه ، ودخوله هذا يعطيه حالاً يختلف تماماً عن حاله في الواقع . في الواقع نفسُهُ “بدر شاكر السياب” يمشي بكيانه على جرف بُويب في قرية جيكور

يسلم على الناس ، والناس تردُّ التحيّةَ عليه ،

يأكل ويشرب ويضحك كالعادة ،

إمّا وهو في الفعل التخاطري مع “انشودة المطر”

فبدرٌ ليس بدراً ذاك الذي وصفناه ،

وهذا حال ينطبق على كل شاعر من الاولينَ والاخرين ويبقى هذا ناموساً ثابتاً حيثما كان ابداع الشعر ..

فالشاعر حينما يدخل موقف الصيرورة في

انجاز النتاج ، اوّلُ ما يطرأ عليه انّهُ يتحوّل إذ ينهدم جثمان كتلته ،

فينقلب إلى أشبه بالبقعة النورانية الشفّافة ، او قل مركّبٌ فنطازي على هيئة سيلٍ من الاحاسيس والمَلكات والعقلنة الباهرة  ، محلّقٌ إلى حيث لا يدري تماماً ، او إلى عَدميات حساسة طرأ عليها طارئ الضرورة ، انها أقبلت أو دُفعَ بها لأن تكون وجوداً جديدا ورابطاً به ما به من بصمة وختومِ مرحلةٍ ناجزةٍ هُيّأَ لها في أن تكون موجودا ذا خصوصية ، وبسبب تحوّلات شاعرها ومبدعها ذاته ، هذه تفسيرية فكرية لكيفية إجراء  اي نتاج كان وثبت أنه أُبتُدِعَ ،

هنا البابلي في نص – اين انتَ –

ماذا نقول عنها ونحن تلقّينا محتوى نصِّها الجميل والجاذب ، نقدياً او بمستوى استعراضيةَ قراءةٍ امتاعية مثلاً ، فهل فكّرت به قبل تكوينه ،،، ؟

وبالمفاجئ باشرت تستدعي ادواتِها لصناعته الأدبية ، وبمثل ما أشرنا في دلالة بحثنا التفسيري أعلاه انَّ البابلي تحوّلت من حيث لا تشعر ، فانهدمت

كتلتُها الجسمانية إذ دخلت حرية الابداع المتعالية والتي ليس مثلَها حريةٌ ابدا ، حيثُ يترآى لها مشهدٌ حضوري آخر ، به تتم هناك اعترافاتٌ ومكاشفات تُجتهدُ وللقدري بها مساهمة الصواب والدلالة والتجلّي ،

فالأدب الحقيقي المبتدع من ذات ساميةٍ نضجت تجربتُها، وكان قد قطعت مستوى بلوغها العام  ، لا يمكن أن يوصمَ بخطىءٍ او انحرافِ صورة ، سيما وبه نبض القدري الماورائي ، هذا الحلول التكويني له نسبيةٌ محسوبةٌ لا تخطيء ، نعني بها انفاس الطبيعة

“والبابلي نور ” اشتغلت على هذا الأساس حيث

الغوص العميق ومكاشفة كائنات العمق الباطن

والتي لا تفوت معدل الروحي المشع بالجمال والبهجة ،

( اين انتَ ..

يامن تركت في قلبي

صوت البحر بعد انكسار الموج

وأثر الريح في أبواب لم تُفتح

يامن علّمتني انَّ الغياب

قد يكون اثقل من الحضور

وإنَّ الوجعَ أحياناً

اصدق من كل الكلمات )

هذا التجلي الغائص لا يمكن أن يغشَّ الحالة

المرجوة ، انّما تأتي بنت لحظتها وبمثل ما تشاء الضرورة التي أحاطت بالمؤهّل التكويني للبُنية التناصية ،

عوالم مدهشة مملؤة بالداخل والعنفوان الفني

والتصويري ” يامن تركت في قلبي صوتَ البحر

بعد انكسار الموج ”

اي تركيب هذا لو امعنّا النظرَ باستجلاب ادوات الصورة ،  اكيد أنه الترميز الهادف لما يعادله من هاجس أو حال وجداني واقعي في دنيا الحلم والألم ،  المبدع صانع يتصفّح الوجود كما يتصفّح كتابا لذيذ المطالعة ،

ومغيّرا إيجابيا للشيئيات حسب ما تقتضيه العوامل والتصانيف الكونية وفق معادلة الحاجة وسدّ نقص الزمكان ، فمن يا ترى هذا المقتدر على ترك صوت البحر بقلب المُحب المتسامي  ، واي عشق تنامى قبلُ وبعدُ هذا التفاعل الدينامي للخلق الفني ، نعم المقتدر هو نشاط غيبي بنسبية مطلقة يعمُّ اجراء فعل الصورة الكلية ، وهنا للشاعر الحرية في الادماج والتحوّل حسب مرامات المعنى وقياسات المحتوى التصويري ،

وكما أرادت الشاعرة نور البابلي في النداء الخفي والمعلن احيانا لو عَمّت فوضى الرحيل والاستغراق مع المحتوى المنتخب  ، فقد لا يستطيع الفنان أن يسيطر على جنبات المسوح كاملةً ، فإمّا أن تهدأ وامّا أن تنفجر إلى حيث مستوى الذروة ، والذروة قياس ثابت في أي نص ،

“يامن علّمتني انَّ الغيابَ قد يكون

وإنَّ الوجعَ أحياناً اصدق من كل الكلمات ”

تأمل كيفية الفعل وتناميه بين الهدأة والسكون وبين التشظي اثر التداخل القابل لصنع الصيغة الجمالية للعمل الفني ، وكما عبّرنا عنها بعامل الترصّد الاستمكاني الحر للرمز  وبين عامل امتداد الموجة وتصعيدها ، وهذي عملية مناوبة لترويض طاقة المعنى واللفظ وتداخل ماهيات المخلوق التعبيري ، حتى لو كان بعيد المنال عن منصّات الاتمام إلى أن يصل لكمال فعله ، الغياب المؤكّد ، اثقل من حضور مرصود عياناً

و وجع اصدق من كلمات صريحة

هذا المعادل تمخّص عن فعل اتقان الذات الذكية

في المراصفات  والمقاربات  والتجلي ،

نداء ( اين انتَ …؟ ) التساؤلية والتي باتت

لازمةً لكل مقطع تؤسس له الشاعرة  وبات مفتاحاً لمغلق روحي تغوص عليه الذات فتسوق له من باطن العمق مضامين جديدة تضيف حياةً للقصيدة وتضيف سعةً بنيويةً أخرى .

( أين انتَ …؟

هل تمشي الان في طريق لا اعرفه …؟

تتأمّل قمرا آخراً

او تصغي لنجمةٍ تخفي سرَّها…؟

هل تسمع اسمي يتردد …؟ )

هذا الإسرار والاجهار ثنائية استدعتها المبدعة

لتحريك ادوات الصياغة واعطاء مرونة الجوهر المختلق بمصنّف جديد يتصادى مع المقاطع الثورية في النص .

( اين انتَ …؟

لقد تعبتُ من قياس المسافات

بين نبضي ونبضك

احصِ الدقائقَ

كما يحصي المتصوّفُ انفاسَه

في حضرة الغياب )

وهذا انكشاف وهتك للحجاب إذ طغت المحبة

والشوق فأعلن العاشق اجهارا لعنونة موضوعاته

الاعتبارية تحت مسمّى لائق و مرن الترحّل والهجرة في كل حين وفي كل مكان ،

حيث لا يمكن أن يتملّك هذا السرَّ إلّا مَن توغّلوا

في العشق .

قصيدتنا انبنت في عمارتها على أسس من المحبة والشوق المشتعل من اول المشوار وبلُغة المشَّور العرفاني نَفَسا.

 

 

 

القصيدة

أين أنت ؟

يا مَن تركتَ في قلبي

صوتَ البحرِ بعد انكسار الموج،

وأثرَ الريحِ في أبوابٍ لم تُفتح،

يا مَن علّمتني أنَّ الغياب

قد يكون أثقلَ من الحضور،

وأنَّ الوجعَ أحيانًا

أصدقُ من كلّ الكلمات.

أين أنت ؟

هل تمشي الآن في طريقٍ لا أعرفه،

تتأمّلُ قمرًا آخر

أو تُصغي لنجمةٍ تُخفي سرَّها؟

هل تسمعُ اسمي يتردّد

في ارتجافةِ ليلٍ بارد،

أم صار قلبي

مجردَ ظلٍّ عابرٍ

في متحف النسيان؟

أين أنتَ ؟

لقد تعبتُ من قياس المسافات

بين نبضي ونبضك،

أُحصي الدقائقَ

كما يحصي المتصوّف أنفاسَه

في حضرةِ الغيب

ألم تَقُل يومًا

إن الأرواح تتلاقى

قبل أن تتصافح الأيدي؟

فلماذا لا أراك

حين أُغمضُ عينيَّ؟

أين أنتَ ؟

في كلِّ صلاةٍ أرفعها

يتدلّى اسمُك مثلَ جرسٍ صغير،

وفي كلِّ حلمٍ

يستفيق وجهُك من رمادٍ قديم،

فأرتجفُ كأنني وُلدتُ الآن.

أفتّش عنك

في فوضى الكتبِ والطرقات،

في مرآةِ الماء،

وفي ارتعاشةِ النور

حين يلامس نافذتي مع الفجر.

أين أنتَ ؟

أم أنّ السؤال هو أنا؟

ربما كنتُ أبحث عني فيك،

أستعيرُك مرآةً

لأرى وجهي المخبأ في العتمة.

ربما أنتَ لستَ شخصًا

بل فكرةٌ من نور،

بابٌ إلى اللامكان،

أو نداءٌ من الله

كي أرجعَ إلى قلبي.

أين أنتَ ؟

ها أنا أتعلّم أنَّ الغياب

ليس فقدًا،

بل تمرينٌ على الحضور الأعمق؛

أنَّ الحنين

طريقٌ إلى يقينٍ أكبر،

وأنَّ اللقاء

قد يكون في صمتٍ

أوسعَ من البحر،

وأصفى من كلّ الكلام.

فإن كنتَ هناك…

في أيِّ جهةٍ من الوجود،

فأنا هنا،

أتنفّسُ حضورَك الخفي،

وأصغي إلى سرِّك

الذي يكتبني من جديد

 

 

 

 

 

عاجل !!