رسم رافائيل (1483 – 1520) لوحته الشهيرة “مدرسة أثينا” بين عامي 1509 و1510، ضمن مشروع تزيين غرف قصر الفاتيكان البابوي (Apostolic Palace)، وقد أراد البابا يوليوس الثاني من خلال هذا المشروع أن يجعل الفاتيكان فضاءً جامعًا لأسمى تعبيرات العقل البشري والفن الكلاسيكي. من هنا، اللوحة كانت بمثابة “بيان فلسفي-فني” يلخص إرث الفكر الإنساني من اليونان القديمة حتى عصر النهضة.
اللوحة في ظاهرها مشهد معماري واسع، يصطف فيه كبار الحكماء والفلاسفة والعلماء في حوار أبدي، لكن عمقها يتجاوز مجرد تجميع الأسماء والوجوه. إنها تمثيل تشكيلي لصراع الفلسفات وتاريخ الأفكار، لجدلية السماء والأرض، الميتافيزيقا والتجريب، العقل المحض والتجربة الحسية.
في قلب التكوين، وضع رافائيل شخصيتين مركزيتين: أفلاطون وأرسطو.بمثابة وضع محور اللوحة على التوتر الفلسفي الأعمق في الفكر الغربي. أفلاطون يرفع إصبعه إلى السماء، مشيرًا إلى “عالم المثل” حيث الحقيقة الخالدة الكامنة وراء المظاهر العابرة. هذا الإيماء هو بيان ميتافيزيقي: الحقيقة في ملكوتٍ أعلى، والعقل لا ينال المعرفة إلا عبر التأمل في الكليات المجردة.
بالمقابل، يقف أرسطو مادًا يده إلى الأمام، كأنه يربّت على الأرض أو يؤكد حضورها، مشيرًا إلى أن الفلسفة لا تنفصل عن الواقع الحسي والتجربة المباشرة. المعرفة عنده تُبنى من معاينة الظواهر، من الملاحظة والاستقراء والتجريب، لا من الهروب إلى سماء المثل. في هذه الإيماءة الموجهة نحو الأسفل، نجد تأسيسًا للعلم الطبيعي والمنطق التجريبي، كما لو كان أرسطو يضع لبنات التفكير العلمي الحديث.
بهذه الإشارتين المتعاكستين – إصبع أفلاطون نحو السماء، وكف أرسطو نحو الأرض – لخص رافائيل جدلية كاملة استغرقت الفكر الغربي قرونًا: المثالية مقابل الواقعية، الميتافيزيقا مقابل الفيزيقا، الروح مقابل المادة، التأمل مقابل التجربة.
لكن قوة العمل لا تكمن في الثنائية فقط، أنما في الطريقة التي جمع بها رافائيل وجوهًا أخرى: سقراط وهو يجادل الشباب بيديه المرفوعتين، ديوجين متكئًا وحيدًا على الدرج في عزلة فلسفية، هيراقليطوس غارق في تأملاته بملامح أقرب إلى ملامح ميكيلانجلو، إقليدس أو أرخميدس وهو ينحني ليرسم شكلاً هندسيًا على الأرض. كل شخصية هنا “أيقونة معرفية” تحيل إلى نمط من أنماط التفكير.
يتجلى نبوغ رافائيل في التكوين المعماري للوحة، حيث الإطار القوسي المهيب يذكّر بفضاءات المعابد الكلاسيكية، ويعكس هندسة عقلانية ترمز إلى الانسجام بين الفكر والفن. العمق المنظوري يفتح عيون المشاهد على امتداد لا نهائي، وكأن اللوحة فضاءً كونيًا يتسع للحوار الفلسفي. إن “مدرسة أثينا” مدرسة الوجود
نقديًا وفلسفيًا، يمكن قراءة العمل كإعلان عن “النهضة” نفسها: العودة إلى اليونان والرومان كطاقة متجددة تعيد صياغة الحاضر. رافائيل، عبر هذه اللوحة، أعاد تشكيله في “يوتوبيا فلسفية” تجمع أزمنة مختلفة في لحظة واحدة. لم يكن مهمًا أن هؤلاء الفلاسفة لم يجتمعوا أبدًا، لكن أن هذا الجمع التشكيلي يجعلهم يتجاورون في “زمان الفن”، حيث يمكن للفكر أن يلتقي عبر القرون.
من هنا، “مدرسة أثينا” نص بصريّ يختزل صراعًا فلسفيًا وجماليًا عميقًا: كيف نفكر؟ كيف نعرف؟ من أين تأتي الحقيقة؟ من السماء أم من الأرض؟
رافائيل لم يجب، لكنه قدّم المشهد كما هو: أفلاطون يشير إلى الأعلى، أرسطو إلى الأسفل، والإنسان – نحن – واقف بينهما، عالقًا بين السماء والأرض، يبحث عن معنى.
مدرسة أثينا: الفلسفة وقد تجسّدت في صورة رياض العلي
