ما خلف السطور و”شخصية جليل ”
في قصة “حبّ ..وحمص.. وثالثما نيتشه” للكاتب جمال الهنداوي
قراءة / مؤيد عليوي
يتمحور السرد القصصي حول شخصية “جليل” وافكاره وعواطفه وعمله المُتغير ، مَن شخص يقضي يومه لا يفكر إلا بكيفية
تصريف سلعته وجني المال ليوفر قوت اهله من تلك العربة ، الى شخص يوفر قوت اهله ويقرأ ويطور ذاته بعد أن كان لا يجيد القراءة ، كان يقرأ لكن بصعوبة فصار شخص يجيد القراءة ويحلل ويفهم ما يقرأ فيكون صاحب مكتبة، الفكرة النقدية الأدبية هنا قد تبدو من شخصيات الرواية التي تحتاج الى سرد طويل ومتن روائي منفتح الى احداث وتحولات تؤدي وظيفة تكوين وبناء شخصية متغيرة ، إلا أن سرد قصة ” حب وحمص ونيتشه ” بأسلوب القاص جمال الهنداوي قد استوعب فكرة المتغيرات في شخصية “جليل ” ورسمها بدقة من خلال :
1- اخوه الاكبر والنصيحة : “جليل” شاب ضعيف البنية يعمل عتّالا في سوق الشورجة نصحه اخوه الاكبر بان يعمل على عربة الحمص أمام باب كلية الآداب، فالعمل هناك أقل تعبا عليه .
2- العاطفة في شخصية ” جليل ” : لم تتغير الشخصية بسبب تغيير العمل من عتال الى صاحب عربة الحمص ، إلا أن المحرك الأساسي لتغيرها عاطفة الحب اتجاه إحدى طالبات كلية الآداب في جامعة بغداد، التي كانت تشتري منه ( البلبي ) عند عربته أمام باب الكلية ، كان يراها بقلبه وكانت تراه بعقلها ، فهو بنظرها مجرد شاب يكافح من أجل لقمة الخبز لامه وإخوته، إلا أن “جليل ” لم يكن يرى ذلك على الرغم من أنها لم تبادره بشيء من العاطفة عندما تقف أمام عربته للحظات وهي تشتري الحمص، وكان يطير فرحا إذا ما ابتسمت بوجهه ابتسامة سريعة إبان كلمات قليلة لا علاقة لها بسر قلبه حبه لها، فهذه العاطفة من طرف واحد في سر قلب شخصية “جليل” كانت المحرك الفعّال في تغيير الشخصية نحو الافضل الإيجابي لها.
3-نيتشه أو فعل القراءة عموما:
بسبب حبه لتلك الطالبة الجامعية التي ذكرتْ أمامه أنها متعبة بسبب امتحان مادة الفلسفة :
(( استجمع كل ما كان يملكه من شجاعة متهيبا من تجاوزه لحدوده التي كان يعرفها بدقة
– اليوم زدت لك كمية الحمص، لأنه يبدو عليك التعب، قد يكون بسبب البرد
ابتسمت بهدوء وقالت :
– امتحان الفلسفة ارهقني جدا ، ولكنه انتهى والحمد لله
– الفلسفة ؟ تلك الكتب الضحمة والاسماء الصعبة
ضحكت للمرة الأولى امامه، ضحكة قصيرة خجولة ))
يكشف الحوار هاهنا الموقف القصصي بين البطل وحبيبته كما يبين البون المعرفي الشاسع بينها الذي يدركه البطل ، فتبدأ سَفرة التغيير في داخله نحو الافضل المعرفي التي اهم من التحول نحو الافضل المالي ( ومَن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) القصد البناء المعرفي بسبب القراءة .
ثم نلحظ نقطة التحول في شخصية ” جليل ” بعد ان ذهب الى شارع المتنبي لكي يبتاع كتابا مختصرا ومبسطا عن فلسفة نيتشه لكي يستطيع أن يدخل حوارا مع الطالبة الجامعية التي أحبها وكنز مشاعره لها ، ليقرأ اول كلمة في كتاب نيتشه هذه العبارة :
(( ” نحن لا نرى الاشياء كما هي ..بل كما نحن ”
قرأها بصوت خافت بينه وبين نفسه هز رأسه ببطء ، احس بغرابة الكلمات ، لكنه فهمها بطريقته )) يشي رسم الشخصية الدقيق لإنسان يقرأ الفلسفة لأول مرة في حياته وهو ابن عشرين سنة مفعم بالحب والعطاء والاقبال على الحياة ، نرى هذا الرسم الدقيق لجمال الهنداوي ، في منطقة شخصية ” جليل ” ،في كلمة ( احس بغرابة الكلمات لكنه فهمها بطريقته) هنا منطقة الادراك الحسي تتحرك التي تكلم عنها ابن سينا قديما ،فتتحرك الشخصية ببطء نحو بناء معرفي ، وحتى عبارة نيتشه هذه( ” نحن لا نرى الاشياء كما هي .. بل كما نحن ” ) كانت ذات صلة بشخصية” جليل ” بطل القصة فهو يحب بعاطفة جامحة طالبة جامعية لا تبادله المشاعر بل تتعاطف معه لكنه يراها من حيث عاطفته هو ،
ثم السؤال لماذا كان نيتشه حاضرا في النص القصصي ؟ لماذا ليس هيغل ؟كما ذكرت الطالبة الجامعية كما مر من الاقتباس ، لماذا ليس سارتر ولماذا ليس ماركس ؟ ولماذا ليس فلاسفة آخرين من القديم والجديد في مادة الفلسفة عند طلبة كلية الآداب ؟
أما لماذا نيتشه ؟ لأن الشخصية القصصية تحتاج الى بناء الذات العملي غير الاتكالي على الافكار ومثالية هيغل وجدله في الافكار من حيث تأثر الشخصية القصصية بما تقرأ ، لكن نيتشه يبحث في بناء ذات الانسان كيف يكون من خلال عبارته من الاقتباس (” نحن لا نرى الاشياء كما هي .. بل كما نحن ” ) وما تحتاجه شخصية”جليل” هو بناء ذاتها مما جعل فعل القراءة عموماً وليس ” نيتشه تحديدا ،فعلا ثقافيا مؤثرا في تحولات البنية السردية للقصة مما جعل الشخصية القصصية تتغير نحو الافضل الإيجابي وهو حيازة العلم والقراءة والفلسفة التي جعلت ” جليل ” يترك عربة الحمص كعملا له ويفتح مكتبة لبيع الكتب ، وفي ذات المنحى الثقافي قال الإمام علي ع : ( العلم أنفع من المال، العلم يحرسك ، والمال أنت تحرسه ) فجمالية هذا المضمون بحمولته المعرفية لقصة قصيرة من المدرسة الواقعية وتحديدا الواقعية البسيطة على حد تعبير الصيني( لي دا ) ، والتي تهتم بحياة الفقراء والبسطاء في المدن والريف، وتجسيدها في نص القصصي واقعي يمازجه الخيال الأدبي الذي يراها ياسين النصير من أحلام اليقظة .. فنرى شخصية البطل ” جليل ” قد تغيرت في نهاية القصة عندما ذهبتْ الطالبة الجامعية التي احبها ،الى مكتبته تريد شراء بعض الكتب ولم تتعرف عليه أنه هو جليل صاحب عربة الحمص أمام باب كليتها والتي نطقت اسمه وقت ذاك مراراً ، فتعامل معها بهدوء في مكتبته محل عمله الجديد ولم يفصح عن شخصيته ، هذا الموقف يبدو ” جليل” اكثر عقلانية بسبب القراءة والمعرفة عموما حيث أخذ يقرأ كل شيء وهو في مكتبته، بمعنى تغيرت البنية العقلية عنده وتفوق العقل على العاطفة سيطر عقله على عاطفته الدافقة اتجاه الطالبة الجامعية .
لكن السؤال الفني الجمالي .. كيف تم إخراج شخصية ” جليل” بهذا المتن القصصي والبناء السردي المكثف الذي ضم شخصية متغيرة أو ديناميكية أو شخصية مركبة في قصة قصيرة، فإن أدوات القاص جمال الهنداوي وتوظيفها في المتن القصصي لبناء الشخصية القصصية ، كانت حاضرة بحرفية إذ وظف المكان والزمان والحوار وغيرها من أدوات المتن ، مع تقنية أسلوب الراوي والمنولوج الداخلي في السرد ، بلغة أدبية تقارب في بعض الاحيان لغة الشعر ، لغة مناسبة للمواقف القصصية بما يتصل بلغة العاطفة الرومانسية ولغة العقل ، نقلتْ بإحساس كل ما تحسه وتدركه شخصية ” جليل” في قصة ” حب وحمص وثالثهما نيتشه” القصة التي جاءت ضمن مجموعة قصص قصيرة لجمال الهنداوي طبعها سنة ٢٠٢٥ في دار السرد للنشر ببغداد. والتي حملت عنوان القصة ذاتها .