لعل هذا التوصيف-اعني الومضة-اقرب ما يكون إلى الدلالة المجازية منه إلى الدلالة الاصطلاحية,فالمستقر في الاصطلاح هو القصيدة القصيرة جدا التي تنتظمها دفقة,وهي بحسب هربرت ريد غنائية,تجسم موقفا عاطفيا فرديا أو بسيطا,وتعبر مباشرة عن الهام,أو حالة مستمرة,ويقدم ريد تحديدا أدق لمفهوم القصيدة القصيرة جدا في كتابة الشكل في الشعر الحديث إذ يقول:عندما يكمن المحتوى بدفقة فكرية واحدة واضحة البداية,والنهاية,كأن ترى في وحدة
بينة,عندها يمكن القول إننا أمام القصيدة القصيرة,في حين عندما يكون المحتوى-الفكرة أو التصور الفكري- معقدا جدا لدرجة أن يلجأ العقل إلى تقسيمه على شكل سلسلة من الوحدات الجزئية,وذلك ليخضعه لترتيب ما من أجل استيعابه في أطار كلي,عندها يمكن القول إننا إزاء ما يسمى بالقصيدة الطويلة0 على أن الفرق الكيفي بين القصيدة القصيرة جدا ,والطويلة يكمن في الجوهر أكثر منه في الطول,إذ تستدعي القصيدة القصيرة جدا مهارة فنية,وقدرة مدربة على التركيز,أي اختزال أكثر قدر من العاطفة أو الانفعال أو الفكرة أو تجلي حالة أو مشهد بالوصف في أقل قدر ممكن من التعبيرات,وهذا ما وجدناه عند شاعرنا (عبد العظيم فنجان ) في الأعمال الشعرية , فنراه يقول :
امرأة تمشي في مرآة
فجأة , يظهر شخص ما , ويكسرها
لكن المرأة , في فضاء المرآة, تظل ماشية
إن القصيدة القصيرة جدا عند الشاعر عبد العظيم فنجان من أبرز خصائصها ضرب متميز من التقنية في القدرة على إيجاد بنية شمولية في بضعة أبيات أو أسطر محدودة,ومن اجل ذلك فهي تقتضي وعيا ,وحساسية متميزين للمعنى,واللغة ليس في نطاق الكلام فحسب,بل في صميم العلاقة بينهما كبنية لغوية كلامية دالة من جهة,وبين العالم من جهة أخرى , فنراه يقول :-
وجودك ينيرني من الداخل
دون حاجتي لان أكون حبيبا
أو صديقا أو حتى غريبا
أنت أندر من أن تكوني شيئا ملموسا
من الصعب أن نعثر في النصوص الرومانسية على دلالة غير بريئة,ذلك أن الكتابة المرة تصبح شرطا لأية رؤية كذلك الشكل الفني فانه يشذب إطرافه,ويكتف ذراعيه,ليصغر حجمه,ويستطيع المراقبة بدقة أكثر لأي تطلع إنساني,لأية رغبة شاعرية أو حلم يخرب,وتتميز نصوص الشاعر كما هو الحال مع الكثير من نصوص التسعينيات المتحدية للممنوع السلطوي,بلغتها المشفرة, أن التشفير لديه لا يصل إلى حدود التلغيز إلى الحد الذي يجعل من التعامل مع النص ,وفهم دلالاته أمرا عسيرا يحتاج إلى الكثير من الجهد,مما قد يفقد النص خاصيته الامتاعية,ويحبسه في خانة الأدب النخبوي,فحسن الساخر بطبعه اختار أن يتعامل مع المحظور بسخرية أيضا,فيكتب قصائده الصادحة بالاحتجاج بطريقة تخاتل الرقيب,لكنها لا تخلو من الخطر,فنراه يقول :-
من فرط العزلة سمعت ضجيج أصابعي:
جاورت نوافذ يحجبني العراء عن قضبانها
من فرط العزلة:
العشب الأبيض نبت على لحية الحديقة
وكتفي صارت سياجا
في قصيدة الشاعر هناك دائما عناصر قولية غير محددة بزمان أو مكان,على الرغم من طغيان مؤشرات ظرفية الرواسم الدوالية في تواصلية عتبة تمظهرات الدلالة الأشتغالية, بيد أننا نلحظ على سبيل المثال,أن دوال لربما لا تعبر في وجه الخطاب عن حدود مؤشرات حدوثية صورة الخطاب,و باسترشاد دليل مجهولي قد يحث بدرجة أمكانية وصفية للحالة الشعرية,أي بمعنى أن تمظهرات الدوال في القصيدة القصيرة جدا توحي بأكثر من منطقة إرشادية,ومعلومة المدلول,وهذا الشيء هو ما يقودنا إلى عتبة هذا التمظهر المتني في قوائم النص مما يجعل متابعة القارئ لحركية هذه الدوال أمرا يتطلب تنوعا فريدا في بناء الصورة الشعرية,وعلى هذا الأمر نلحظ أن متباينات التواصل الدوالي,هي عبارة عن إحلال ملفوظي داخل حيز أللحاقي في متواليات البنية الوصفية للدوال0ولعل من أهم سمات الصورة الشعرية فيها هو التكثيف,وهي بذلك تعبر من الحياد إلى الجمال الفني,وإذا كانت الشعرية تكثيفا للغة فان الصورة الشعرية تكثيف للشعرية,وهذا المقترب أمس بالقصيدة القصيرة جدا التي سنتفحص تشكيلاتها الصورية في شعر الشاعر ,لكونها تمثل بكليتها صورة شعرية,ونتناول اختلافها عن الأشكال الشعرية الأخرى من حيث المكونات,والعناصر,والوظيفة الدلالية,تختلف القصيدة القصيرة جدا في تشكيلاتها الصورية عن القصيدة الطويلة من حيث طريقة التعامل مع اللغة,والرموز,ونوعية التجربة الجديدة التي طبقها الشاعر في كتابته الشعرية الجديدة ,وطبيعتها,وأصالتها,أو لنقل أنها تمثل رؤية ممتدة في اتجاه واحد,يوجهها شعور موحد ,وهو ما يطبع صورتها الشعرية بطابعها الخاص,وان القصيدة القصيرة عموما,وفي شعر الشاعر على وجه الخصوص,تميل إلى بناء الصوري الكلي أكثر مما تميل إلى البناء التجزيئي,بمعنى أنها تعتمد الصورة الكلية الموحدة وصولا إلى أقصر أشكال القصيدة التي يمكن تسميتها بـ(القصيدة/الصورة),تلك التي تنقل موقفا شعوريا واحدا بعاطفة موحدة,وبتناصر موسيقي تركيبي دلالي,فنراه يقول :-
عندما التقطت المظروف
الذي نقله طائر إليك
ثم اختفى بسرعة في الأفق
عندما تنفست الصعداء
رفعته إلى صدرك بحنان
ثم فتحته بهدوء
فوجدت فيه جثة الطائر
وقد تتحول الاستعارة أو الكناية إلى صورة رمزية غير أن الاستعارة التنافرية قد تؤدي في كثير من القصائد القصيرة جدا عند الشاعر في إلى خلق صور المفارقة,وهي تمثل أشد حالات التنافر,والتصادم بين الحقول الدلالية المتضادة,ولعل من أهم ما نسجله في القصائد القصيرة جدا لديه أنها تعتمد عنصر المفاجأة,والدهشة,واللاتوقع,والتصادم الدلالي,وهي خصائص تنسجم مع اختزال الصورة لتتناسب مع قصر القصيدة القصيرة جدا ,ولهذا قل اعتماد الصور الشعرية في هذا النمط الشعري على استثمار الجانب الأسطوري أو الدرامي أو السردي في القصيدة القصيرة جدا , فنراه يقول :-
تأتي الصرخة من كل مكان
إلا من الجثة لكن لا احد يسمع
فعشتار صماء في مجلس الآلهة
لا شيء يلهب خيالها إلا النار
تلتهم أور معبدا بعد آخر
حتى تأتي على الصرخة
وأخيرا نقول وحده الشاعر العراقي من يستطيع أن يعرف المعنى الحرفي للمفردة اليومية والتي تدل على معان عدة أو هي قطعا ليست من إعمال اللغة,ولن تكون القصيدة أبعد من لذة النص بالمفهوم البارتي الملحق بعلم النفس ذلك المفهوم الذي يستطيع أن يقطع النص من جسد اللغة بوصفه اختزالا شبقيا,انه طفل كبير بقدر ما لا يعني أن يقول,أو يتكلم أحيانا لكي يترك غبارا متعبا خلفه, يوجد خلف النص لغة,لان اللغة ستكون دائما أمامه,وذلك عندما يمكن لنا الحديث حسبما يرغب رامبو عن سكرات اللغة,نستطيع بعد ذلك إن نعرف القصيدة القصيرة جدا بطريقة الشاعر الجديدة في الكتابة , ويتفق معنا الأستاذ خضير ميري فيما ذهبنا إليه0




