قصة قصيرة : قَلْبٌ اِسْتَوطَنَه الأمَلُ | لطيف عبد سالم

هيئة التحريرمنذ ساعتينآخر تحديث :
قصة قصيرة : قَلْبٌ اِسْتَوطَنَه الأمَلُ | لطيف عبد سالم

لأكثرِ من خمسةِ أشهرٍ عرفتهُ المدينة، وهو يجوبُ كُلَّ صباحٍ أزقتها التُرابيَّةَ المُتعرِّجة؛ بحثًا عن قُوتِ يومه، كانَ مُميِّزًا بصوتهِ الحزين المُتناسق مع النَّغماتِ، التي يُحدثها ضربُ مِطرقته اليدويَّةُ على قِطعةٍ حديديَّةٍ صغيرةٍ مُثبَّتةٍ بشكلٍ عشوائيٍّ في مُقدِّمةِ بدن عربةٍ خشبيةٍ عتيقةٍ يجُرُّها حِصان هَرِمٌ، وعلى ظهرها مجمُوعة من أُسطُواناتِ الغاز السائل.

عندما كانَ مُنشغِلًا ذاتَ يومٍ بقيادةِ عربته في واحدٍ من أَزقَّةِ ذلك  الحيّ البائس، وهو غيرُ آبهٍ بما تَنشُرهُ فيما حولها من ضَّوضاءٍ عاليةٍ لم يَقتصر أثرها في تعكيرِ صفوَ إِشراقة الصَّباح الجميل فَحسب، إذْ لرُبَّما كانَ المُتسرِّب منها إلى أَروقةِ المنازلِ سببًا في إيقاظِ بعض النَّائمين، أو التأثير في راحةِ بعضٍ آخرَ منهُم، اِستوقفهُ أحدُ الفِتية ليسألهُ بعفويَّةٍ وسطَ سحابة الغُبار، التي أثارتها عجلات عربته عن سببِ مُفارقة رُوحهِ الفرح، الذي تفضحُ عيناهُ اللّتانِ علاهُما التُّرابِ كظمهُ الشديدَ لحُزنهِ الدفين؟.

توقَّفتْ العربةُ وخفتت الأصواتِ النَّاجمةِ عن اِحتكاكِ دواليبها القديمة المُهترئة مع بعضها بعضًا، وما كانَ من صَاحبها إلا التصنُّع بالتثاؤبِ لمُغالبةِ النُّعاس من أجلِ تَّدبّر أمر الإجابة، وهو غيرُ مُصدقٍ ما سمعَ، فالسُؤّالُ المُفاجئ وغير المُتوقَّع، لم يكُنّ مُطمئنًا للرَّجُلِ المنكُود، إذْ أَربكته مُباغتةُ الفتى، الذي ظنَّهُ بداية يُحاول ابتياعِ ما تحتاج أُسرتهُ من أُسطُواناتِ الغاز، ثُمَّ ما لبثَ أنْ نظرَ إلى الأفقِ البعيد بُرهةً قبلَ أَنْ يُطأَطئَ رأْسهُ إلى صدرهِ، وهو يهمُّ بالاِنصرافِ على عجلٍ، لولا طيشُ الفتى، الذي أَلزمهُ التَّشبُّث بفُضُولهِ في التعرُّفِ على حقيقةِ ما يكتُمه الرجُل العجُوز.

تمتمَ بكلماتٍ لم يسمعها أحدٌ غيرُهُ، ثُمَّ رفعَ عصاه ليضرِبَ الحصان على قفاه، لكن يَد الفتى كانت أسرع إلى منعهِ من فعلِ ذلكَ، فبدتْ علامات الاِستياء تزدادُ وُضُوحًا على ملامِحِ وجههِ، صمتَ قليلًا شُعُورًا بالاستغرابِ، وراح يفكِّر فيما قال الفتى، ثُمَّ بادرهُ بالقولِ:

– ما أثار اِهتمامكَ أكبر من أنْ تُدرِّكه يا بُني، اِهتم بدراستك، ودعني وشأْني، اترُكني أذهبَ في حالِ سبيلي.

نظرَ إِليهِ الفتى، وقالَ بانزعاجٍ:

–  لم أفهم ما تعني.

فأَجابهُ الرَّجُل بكُلِّ هُدُوءٍ:

– اِختلط الألم بالأَملِ، فاِعتدنا على الحُزنِ، حتَّى أَصبحَ جُزءً من عوالمنا، إلا أنَّ الحُلُمَ لا يزالُ يلهث ما بيننا.

ذَهِلَ الفتى، زادت حيرَتهُ، لم يَعُدّ قادرًا على إدراكِ ما يبطَن الرَّجُل في خبايا أَقواله، فرجاهُ طالبًا توضيحَ مقاصِد عباراته، فأَجابهُ صاحِب العربة قائلًا:

– لا تظُنَ أنَّ ما أَبتغيه في حياتي هو البحثُ عن رغيفِ خُبزٍ أَسُتِر بهِ جُوع عيالي، أو سَّقف مُتواضع يقينا من جليدِ بردِ الشّتاءِ، ولهيب حرَّ الصَّيف!.

تنامى اِستغراب الفتَى، صارَ لا يفهم ما يقُول الرَّجُل العجُوز، زادَ فُضُولهُ؛ لمعرفةِ ما أحاطَ عباراته من غُمُوضٍ، نظرَ إِليه وسألهُ مُكترثًا في ضيقٍ قائلًا:

– هل هُناك أَكثَر أَهميَّة من هذه الأَمانيّ؟.

صمتَ للحظةٍ، ثُمَّ أَردفَ قائلًا:

–  نعم يا بُني، قبلَ أنْ ألتحفَ الثَّرَى أَحلَم بوطَنٍ أَجمل!.

اِسْتَحْوَذَ الذُهُول علَى الفَتَى، تَسَمَّرَ فِي مَكَانِه، بَاتَ يَشْعُرُ بِألَمٍ فِي رَأسِهِ، وَهُوَ يَنْظُرُ مَبْهُوتًا إلى العَرَبَةِ المُتهَالِكَةِ، وَهِيَ تبتعدُ عن الزُقاقِ رُويدًا رُويدًا نحوَ فضاء مجهُول!.

عاجل !!