قبة ضد الاختراق” / رياض الفرطوسي

هيئة التحرير18 يونيو 2025آخر تحديث :
قبة ضد الاختراق” / رياض الفرطوسي

في الشرق، لا تنقصنا الحروب، بل تفيض علينا. ولا نفتقر إلى الأسلحة، بل نتكدّس بها، فيما تعاني عقولنا من خواء، ومجتمعاتنا من هشاشة فكرية مقلقة. في زمن تتقدّم فيه الأمم ببناء منصّاتها الرقمية والعلمية، وبتحصين وعيها القومي من التزييف والتشويه، لا تزال شعوبنا تواجه أكثر الأخطار فتكاً بلا دروع: الجهل، والاختراق، والدسّ، والتشكيك، وتوظيف العملاء لاختراق الوعي قبل الأوطان.

حين أقامت إسرائيل قبتها الحديدية، لم يكن هدفها فقط التصدي للصواريخ، بل غرس شعور دائم لدى مواطنيها بأن هناك درعاً يحميهم، وأن العقل الذي صمّمها يستحق الثقة. فماذا عنّا؟ ألسنا أولى بقبة فكرية تقي وعينا من التلوّث، وتحصن وجداننا الجمعي من الدسائس، وتمنع العقل العربي من أن يكون بوابةً مفتوحة لكل من هبّ ودبّ؟

القبة الفكرية ليست خيالًا، بل ضرورة. فالمجتمع الذي لا يحصّن أبناءه ضد التلاعب والسموم الفكرية، سيجد نفسه ذات يوم يُحكم من الداخل بأدوات الخارج، دون أن يُطلق عدوٌّ رصاصة واحدة. وهذا ما يحدث فعلياً في أكثر من بلد عربي، حيث نرى أجيالًا مشوشة، ومواقف متناقضة، وتحولات فكرية سريعة تُدار خلف الستار بواسطة الجيوش الإلكترونية، والإعلام المضلّل، ومنصات اللاوعي.

لقد تغيّرت أدوات الحرب، ولم نعد بحاجة إلى جيوش تقتحم المدن. بات يكفي حساب مموَّل على منصّة مشبوهة، أو قناة تتحدّث بلهجتك لكنها تُدسّ السمّ في مفرداتك، أو باحث مزعوم ينشر دراسات مضلّلة تحت اسم التنوير، ليُدخل الاضطراب إلى قلب مجتمعك، ويُعيد صياغة الحقائق بأسلوبٍ يفتك بالثوابت دون أن يشعر بها الناس.

هكذا تكون الهزيمة: ناعمة، وناعسة، ومخاتلة.

ومن يراجع تاريخ الاحتلالات، سيكتشف أن المرحلة الأولى تبدأ بالاختراق الفكري لا العسكري، وبالتشكيك لا بالقصف، وبالعميل الذي يتسلل إلى الوعي لا بالمجند الذي يقتحم الحدود. هناك دائماً نقطة ضعف يستغلها الخصم: جهل، طائفية، قطيعة بين الدولة والناس، فساد يشلّ مؤسسات التعليم والثقافة، أو قادة غير مبالين بما يُبث في العقول.

فهل لنا أن نسأل: لماذا لا تكون لدينا “قبة فكرية” تحمي هذا المجتمع من التفكك؟ من يدافع عن الوعي الجمعي حين تتسابق الجهات الخارجية على اختراقه؟

 

لسنا بحاجة لقبة فولاذية، بل لمشروع فكري تربوي طويل النفس، يعيد للإنسان العربي ثقته بلغته، وتاريخه، ومبادئه، ويُعيد تعريف العدو والصديق ضمن إطار وطني، لا مذهبي أو أيديولوجي. نحن بحاجة إلى مدارس تحصّن الطالب لا تُلقّنه، إلى إعلام لا يبيع الإثارة بل يبني الوعي، وإلى مؤسسات ترعى العقل لا تروّج للقطيعة.

المثير للسخرية أن بعض نخبنا، ممن يفترض بهم أن يكونوا الحماة الطبيعيين لهذا الوعي، انخرطوا دون وعي (أو بوعي كامل) في مشاريع التشكيك والتفكيك والتخوين. لقد أصبح بعض الأكاديميين والمثقفين أدوات ناعمة في يد أجهزة أجنبية، أو امتداداً لدوائر استخبارات تعمل على غسل العقول من الداخل. هؤلاء ليسوا مجرد أفراد منحرفين، بل هم اختراقات خطيرة تشكّل ثغرات في بنية المجتمع، أخطر من أي ثغرة عسكرية.

إن القبة الفكرية تبدأ بمفهوم السيادة على الوعي. فكما تحمي الدولة حدودها الجغرافية، يجب أن تحمي حدودها المعرفية والقيمية. لا يمكن أن نكون دولة ذات سيادة ونحن نستورد الأفكار من دون تمحيص، ونُعيد تدوير الخرافات دون مراجعة، ونتبنى سرديات العدو بحجة النقد والتنوير. الحرية لا تعني الفوضى، والانفتاح لا يعني الذوبان، والنقد لا يعني أن تنقلب على نفسك وتعيد كتابة تاريخك بلغة خصمك.

لا يمكن أن تتماسك أمة لم تعد تعرف من هم أعداؤها، أو تتعامل مع الفوضى كأنها تعددية، أو مع الخيانة كأنها رأي.

القبة الفكرية أيضاً لا تعني الرقابة أو المنع، بل تعني وجود بنية معرفية صلبة، قادرة على المواجهة لا الهروب، وعلى الردّ لا الكبت، وعلى التفكيك لا التسفيه. مجتمعاتنا بحاجة إلى مدارس تعلّم كيف نفكر لا بماذا نفكر، إلى مناهج تزرع المناعة لا الخوف، إلى خطباء لا يُحرّضون، بل يُضيئون، وإلى نخب تعرف أنها في حالة دفاع دائم عن الوعي.

والوعي ليس مادة جامدة تُلقّن، بل روح حيّة تُغذى بالحوار، وتُصان بالحقيقة، وتُثبّت بالعدالة. فإذا افتقد المجتمع للعدالة، استُبيح وعيه، لأنه لم يعد يثق بمصدر الحقيقة. من هنا فإن بناء القبة الفكرية لا يكتمل من دون قضاء عادل، وإعلام مستقل، وتعليم مبدع، وسياسة أخلاقية.

هل نبالغ إن قلنا إن الحصانة الفكرية هي درع السيادة الحقيقي؟ في زمن يُختطف فيه الوعي قبل الأرض، وتُدار فيه الحروب من داخل الهواتف لا على جبهات النار، يصبح من غير المقبول أن نبقى عُزّلًا فكريًا، بلا مشروع، وبلا قبة.

ولعل ما يثير القلق أكثر من الاختراق الخارجي هو الاستعداد الداخلي للتجاوب معه. هناك في كل مجتمع عملاء فكر، جاهزون لتبرير الانهيار، والتطبيع، والتشكيك، وهم أكثر فتكاً من الجواسيس التقليديين، لأنهم يعملون من داخل الثقة لا من خارجها، ويتحدثون بلغتنا لكنهم يبثون أجندة الغير.

 

نعم، إسرائيل تملك قبة حديدية، لكن الخطر الأكبر على العرب ليس الصاروخ، بل الانقسام، وفقدان البوصلة، والسخرية من الثوابت، وتحويل الوطنية إلى تهمة، والمقاومة إلى إرهاب، والتفريط إلى وجهة نظر.

ما نحتاجه اليوم هو أن نعيد للمجتمع حصانته، أن نصنع له قبة فكرية من العقل، والعدل، والهوية، والمناعة المعرفية. أن نفكك الخطاب الدخيل، ونكشف أدوات التشويش، ونحصّن الأجيال من أن تكون أدوات في يد أعدائها.

فمن دون ذلك، لن يفيدنا ألف سلاح، إن كان العدو قد اخترق عقولنا قبل حدودنا.

 

 

عاجل !!