في نص «أفعى بيضاء» للشاعرة سها سلوم : الجسد بوصفه خريطة للانبعاث ومسرحًا للمقاومة /  عباسية مدوني / إعلامية وناقدة من الجزائر

هيئة التحرير19 نوفمبر 2025آخر تحديث :
في نص «أفعى بيضاء» للشاعرة سها سلوم : الجسد بوصفه خريطة للانبعاث ومسرحًا للمقاومة /  عباسية مدوني / إعلامية وناقدة من الجزائر

dfa15706 d0c2 441b 914c 98dbd4196f59يقدّم نص «أفعى بيضاء» فضاءً شعريًا متوترًا تتقاطع فيه الطفولة مع السياسة، والجسد مع الذاكرة، والجرح الفردي مع أسئلة الوطن ، إنه نصّ يُبنى عبر ثلاث ولادات: صبية تُخلق من ضحكة، وامرأة تُخلق من مواجهة، وأفعى بيضاء تُخلق من تطهير داخلي يعيد تعريف الذات والوطن.

  1. ولادة لغوية: الضحكة بوصفها منبع الخلق

يفتتح النص بعبارة متكررة تتخذ شكل طقس: «أولد من ضحكة خدك» ،  ليست الضحكة هنا حدثًا يوميًا، بل مركزًا جيولوجيًا يولّد اللغة والذات ، يتحوّل الخد إلى «رحم لغوي»، والضحكة إلى شرارة تُطلق الصبية نحو العالم والكتابة ، وفي هذه المرحلة، يُعاد تعريف البدايات عبر الجسد، لا عبر الزمن، ليصبح الجسد هو الذاكرة الأولى.

الصبية “تحبو نحو اللغة”، وكأن اللغة ليست مكتسبة بل وراثية، يُعاد اكتشافها كما يُكتشف الجسد — عبر لمس، لعب، واحتكاك عفوي مع العالم.

  1. تخوم البراءة والخطيئة: انكسار العالم الطفولي

يتقدّم النص نحو مساحة أكثر حدة حين تدخل الصبية عالَم الكبار:فساتين السهر، كؤوس الخمر، حكايات الجدّة…كلها تُكوّن مشهدًا يمزج البراءة بالانتهاك الرمزي.أحد أكثر المشاهد قوة هو:

«تلاعب صبية الحي / بأفعى ترقص على كتف موجة / فضت بكارة سلحفاة / دفنت عارها في رمل الشاطئ / فكانت بحة صوتك…»

 

هذا المشهد مسكون بشحنة نفسية عالية؛ تتعرّض السلحفاة — رمز البطء، والاتّزان، والحماية — إلى «فضّ» غامض. هو مشهد اعتداء رمزي، يدوّي صداه في صوت الآخر: «بحتك». هنا يتقاطع العنف الواقعي مع العنف الرمزي، ويتحوّل الفعل إلى أثر صوتي يبقى في الجسد.هذه الصورة تُخرج النص من جماليات الطفولة إلى جمالية العطب، حيث الولادة مقرونة بجرح، والضحكة مكمّلة للصراخ.

  1. التحوّل الأنثوي: من حيض الجسد إلى حيض الوطن

ينتقل النص من الجسد الفردي إلى الجسد السياسي عبر عبارة كثيفة:

«امرأة أتمت حيض الخيانة للوطن / طردت الدم الفاسد من فوهة السؤال…»تقوم الشاعرة بقلب المفاهيم:

«الحيض» ليس دنسًا، بل تطهيرًا.

«الخيانة» ليست فعلًا ارتكبته، بل دمًا سياسيًا فاسدًا تتخلص منه.

في هذا الموضع، يصبح الجسد محرارًا ومرآة: يفضح فساد علاقة الوطن بابنته/امرأته. ويتصاعد النص إلى ذروة سياسية عند تصوير المحقق:«حين ساوم المحقق على شرف منديلك…»صورة تُحيل إلى تاريخ طويل من سلطة ذكورية/أمنية تُحاول إذلال المرأة عبر الجسد، لكن النص ينسف هذا المنطق عبر تقديم المرأة باعتبارها صاحبة سلطة تطهير، لا موضوعًا للاتهام.

  1. استبدال الخرائط: الوطن في الشامة

تصل اللغة إلى لحظة انقلابية:

«اخترت الشامة وطن / وبصقت على خرائط سايكس بيكو»

هنا نبلغ المستوى الأكثر جرأة في النص:

 

الوطن لم يعد جغرافيا مفروضة.

الشامة، تلك النقطة الصغيرة الحميمة، تصبح بديلاً لحدود العالم.

إنها قمة التمرّد الأنثوي — تحويل الجسد إلى خريطة، والحميمية إلى مساحة سياسية.بهذا ترفض الشاعرة ليس فقط أذى المحقق، بل أيضًا إرثًا استعماريا رسم حدودًا للمنطقة دون استشارة روحها.

  1. الأفعى البيضاء: الانبعاث الأخير

الأفعى البيضاء تمثّل الطبقة الأكثر تعقيدًا في النص. إنها ليست رمزًا شيطانيًا، بل:

كائن يُغيّر جلده (إعادة ولادة).

رمز الشفاء في الأساطير.

علامة الحكمة والحدس الأنثوي العميق.

حين تقول الشاعرة:

«أولد هنا / أموت هنا / وأبعث هنا / أفعى بيضاء»فهي تعلن ولادةً ثالثة، لا تتعلّق بالطفولة ولا بالأمومة ولا بالنضج السياسي، بل بالتحوّل الوجودي.الأفعى البيضاء هي الذات وقد بلغت قدرتها القصوى على إعادة إنتاج نفسها.هي منتصرة، لا مهزومة؛ شفافة، لا ملطخة؛ قادرة على الحفر، لا على الخضوع.

  1. الخلاصة النقدية: نصّ بين الألم والمواجهة وإعادة التأسيس

«أفعى بيضاء» نصّ يشتغل على مستويات متعدّدة:

سيميائيًا: عبر شبكة رموز (الضحكة، السلحفاة، الأفعى، الشامة).

نفسياً: عبر صدمة مكبوتة تنعكس في بحة الصوت.

نسويًا: عبر مقاومة مفهوم الشرف ورفض جسدية الاستغلال.

 

سياسيًا: عبر رفض الحدود المفروضة واستعادة الجسد كخريطة بديلة.بلاغيًا: عبر التكرار الطقوسي، الجمل المبتورة، والتصوير الصدمي.النص في جوهره سردية تحوّل:من طفلة تُولد من الضحكة،

إلى امرأة تُولد من المواجهة،إلى أفعى بيضاء تُولد من الحكمة والألم. إنها كتابة تُعلن أن الهوية لا تُمنح، بل تُستعاد من فمّ الجرح، وأن الوطن ليس حدودًا بل أثرًا جسديًا، وأن الولادة لا تحدث مرة، بل كلما بدّل الجسد جلده.

 

 

……………………

أفعى بيضاء

سها سلوم

أولد من ضحكة خدك

صبية تحبو نحو اللغة

تشاكس ألعاب الكبار

من فساتين السهر

وكؤوس الخمر

وحكايات الجدة…

أولد من ضحكة خدك

صبية تُسرّح غرة الخيل

وتُسرج الأشعار

لعتمة الشتاء …

تلاعب صبية الحي

بأفعى ترقص على كتف موجة

فضت بكارة سلحفاة

دفنت عارها في رمل الشاطئ

فكانت بحة صوتك ….

أولد من ضحكة خدك

امرأة أتمت حيض الخيانة للوطن

طردت الدم الفاسد

من فوهة السؤال

حين ساوم المحقق

على شرف منديلك

والعصافير المطرزة

بمظروف رسائلك ….

اخترت الشامة وطن

وبصقت على خرائط سايكس بيكو

ألقيت وصيتي الأخيرة

على منبر خدك ;

ولدت هنا

أموت هنا

وأبعث هنا

أفعى بيضاء .

 

 

عاجل !!