في إطار المسابقة الرسمية للدورة السادسة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية، احتضنت قاعة الفن الرابع بالعاصمة التونسية عرض “ريش” لفرقة شادن للرقص المعاصر القادمة من فلسطين، مقدّمة تجربة أدائية اعتمدت لغة الجسد وحدها لبناء رؤية مسرحية متماسكة تهجس بأسئلة الحرية وتفكّك آليات السلطة.
منذ المشهد الأول، بدا واضحاً أن المخرجة والكوريغرافية شادن أبوالعسل تراهن على الجسد كأداة سردية كاملة، إذ صاغت من خلاله شبكة علاقات قائمة على التوتر والتقارب والتنافر، ما أتاح للمتفرج متابعة مسارات التحوّل الداخلي للشخصيات دون الحاجة إلى كلمة منطوقة. الحركة هنا ليست زينة جمالية، بل لغة تشرح انكسارات النفس وتوتّرات الروح وتكثّف الصراع بين الرغبة في التحرر وقوة الهيمنة التي تتسرّب إلى الذات بهدوء.
السينوغرافيا لعبت دوراً حاسماً في بناء هذا العالم الدرامي؛ سيطرة اللون الأزرق على الركح جعلت الفضاء مغلقاً وكئيباً، أقرب إلى زنزانة نفسية تحاصر راقصيها. أما المكتبة الضخمة التي احتلت جزءاً من الخشبة، فجاء حضورها محمّلاً بدلالة مزدوجة: فهي رمز للمعرفة من جهة، ومن جهة أخرى تتحول إلى ثقل يطغى على الشخصيات حين تنقلب الثقافة إلى أداة بيد سلطة تحدد ما ينبغي أن يُعرف وكيف يُفهم العالم. هذا التداخل بين الديكور والأداء خلق صوراً مركّبة حول علاقة الإنسان بما يحرّره وما يقيده وما يورثه الذاكرة الجمعية من معايير.
درامياً، تتنامى العلاقات بين الشخصيات الأربع تدريجياً، من توازن هش إلى اختلال يقوده صراع داخلي بين التسلّط والاستلاب. تبرز علاقة حب غير متكافئة تتحول فيها العاطفة إلى قيد، ويتحوّل التعلق إلى تبعية، قبل أن ينفجر هذا التوتر ويعيد تشكيل الديناميكيات داخل المجموعة. ويأتي عنوان العمل “ريش” ليختصر هذه المفارقة: فهو رمز للتحرر والخفة والطيران من جهة، وللهشاشة وقابلية الانكسار من جهة أخرى، في تجسيد لواقع كائنات لا تدرك استلابها إلا عندما تصطدم بقوة خارجية توقظ وعيها.
ورغم الطابع الرمزي والتجريدي للعمل، يحضر الواقع الفلسطيني في العمق؛ فالعرض يبدو كمرآة لأسئلة شعب يعيش قيوداً متعددة، من الجغرافيا إلى الهوية، ومن التاريخ إلى ما يتعرض له من محاولات محو ثقافي. وتغدو الخشبة فضاءً يوثّق معاناة جماعية دون خطاب مباشر، مستندة إلى طاقة الجسد ورمزية الفضاء لتقديم شهادة فنية عن شعب محاصر لكنه متمسّك برغبة لا تنطفئ في التحرر.
شارك في الأداء كل من سميحة عبّاس، عنان أبوجابر، ماشا سمعان وهيا خوريّة، بينما تكاملت موسيقى سعيد مراد مع الدراماتورجيا والسينوغرافيا التي صاغها حازم كمال الدين بالتعاون مع المخرجة، ليصنع العمل بنية فنية قائمة على الإيقاع الحركي المتصاعد. وقد امتد العرض على مدى 65 دقيقة، قدّم خلالها رؤية فنية تحفر في أسئلة الذات والهوية والسلطة، وتذكّر بأن الحرية ليست معطى جاهزاً، بل رحلة وعي تبدأ من إدراك حدود القيد.
ففي عرض “ريش” تجتمع أربع كائنات تتشابك علاقتها في مشاهد تبرز تعقيد التفاعل الإنساني وقوى السلطة التي تؤثر في حياتهم، ويتجلّى هذا التأثير من خلال علاقة حبّ بين كائنين، أحدهما متسلّط، والآخر مستلب.
وبهذا المعنى، جاء “ريش” عملاً فنياً مكثفاً، يزاوج بين جماليات الرقص المعاصر وعمق الأسئلة الوجودية والسياسية التي يحملها، ليضيف بصمة فلسطينية لافتة على خارطة أيام قرطاج المسرحية.
وتضم الدورة 26 لأيام قرطاج المسرحية 12 عرضًا في المسابقة الرسمية، و15 عرضًا ضمن قسم “مسرح العالم”، و16 عرضًا تونسيًا، و6 عروض عربية وأفريقية، و12 عرضًا للطفولة والناشئة، و6 عروض للهواة، إضافة إلى 16 عرضًا في قسم “مسرح الحرية” الذي تشارك فيه وحدات سجنية ومراكز إصلاح.
وتؤكد دورة هذا العام، بانفتاحها على التجارب العربية والعالمية وتنوّع رؤاها، أنّ المسرح يظلّ فضاءً للوعي والتغيير ومرآة تعكس نبض المجتمع التونسي والعربي.




