تمثل قصة (جيب الزورق) للشاعر وللقاص العراقي (واثق الچلبي) عتبة دخول ملغزة إلى عالمه القصصي في مجموعته (جنيّ الأكفان) وهي ليست قصة بالمعنى التقليدي للحدث والحبكة بل هي لوحة سوريالية مكثفة قصيدة نثرية سردية تحفر في أعماق الوجود الإنساني من خلال استعارات مذهلة وانزياحات لغوية تضع القارئ في قلب دوامة من المشاعر والرموز
قبل الغوص في النص تضعنا العناوين في سياق دلالي مكثف. عنوان المجموعة (جنيّ الأكفان) يشيء بعالم موبوء بالموت والطقوس الجنائزية المشوهة. أما عنوان القصة (جيب الزورق) فيجمع بين عنصرين متنافرين: (الجيب) كفضاء خاص وسري وحميم و(الزورق) كوسيلة ترحال وعبور غالباً ما ترتبط بالمياه والموت والانتقال إلى عالم آخر. هذا التزاوج يخلق إحساساً بالغموض والانتظار لحدث وجوديلا توجد حبكة تقليدية في القصة بل تيار من الوعي يجمع بين المشهد الخارجي (النهر- الشاطئ- الزورق) والحالة النفسية الداخلية
للشخصيتين غير المحددتين بوضوح. اللغة هنا ليست أداة للوصف بل هي موضوع النص نفسه. الجلبي الشاعريستخدم لغة شعرية خالصة تتميز بـالجماليةهناك تكثيف وانزياحات في متن النص(عينٍ وشفة وقلوبٍ لاهثة)(نهرٌ يتلمظ)(شاطئ مخبول) هذه الانزياحات تحرر الأشياء من دلالاتها المألوفة لتمنحها وعياً وحياةً غريبةالمفارقة والصورة المذهلة(سمكة تحاول أن تصبح قرداً) هي صورة عبثية تخلط بين عالمي الماء واليابسة بين الأسفل والأعلى ربماتعبيراً عن محاولة يائسة للتطور أو الهرب من الذات
لذا نجد ان الجمل قصيرة متقطعة تشبه أنفاساً متلاحقة أو خفقان قلب خائف. هذا الإيقاع يخلق توتراً درامياً مستمراً رغم انعدام الحدث التقليدي يرسم (الچلبي) عالماً أشبه بكابوس حيث ان النهر والشاطئ ليسا مكانين رومانسيين، بل هما فاعلان عدوانيان. النهر(يتلمظ) كوحش- والشاطئ (مخبول). الطبيعة هنا معادية، لا تمنح السلام بل تزيد من حالة القلق الوجودي
الزورق هو الرمز المركزي. إنه (منسي) و(جيوبه أفواه رمال) يحول الجلبي الزورق من وسيلة إنقاذ إلى كائن فاغر فمه، يبتلع ويمثل القبر أو الفقد. الزورق هو الوسيط بين الحياة والموت ولكنه وسيط فاشل
النجمة التي(تسقط في جيب الزورق) هي رمز الأمل والحلم الذي يسقط في فم الموت (جيب الزورق). سقوط النجمة ليس حدثاً سماوياً جميلاً بل هو محاولة يائسة للخلاص تذهب أدراج الرياحلا نعرف اسمي الشخصيتين (هو وهي)، مما يمنحهما طابعاً كونياً. العلاقة بينهما علاقة حب أو عشق في مواجهة عالم مجنون
الشخصية الذكورية (هو) هي شخصية مهزومة منذ البداية. مصيره مُعلن(حبة ملح في جوف حوت لا يعلم أنه في الماء). هذه الصورة المروعة تلخص العبثية المطلقة: كينونة تذوب في عالم لا يدركها أصلاً. هو (مجنون) في نظرها يحطم الزورق (بعويل أبكم) تعبيراً عن ألم لا صوت له ولا يمكن التعبير عنه
الشخصية الأنثوية (هي): تحاول في البداية أن تكون عنصر استقرار(تنهره كي لا يمسك نعومة الكذب) (تستر عورته بقبلة (الرماد) لكنها تفشل هي الأخرى. العالم الذكوري المنهار يسحبها إلى هاوية الضياع. تكتشف ضعفها(صدرها مكشوف)(ساقها لم تعد تعمل إلا بختم الأواخر). إنها تفقد فاعليتها وتصبح جزءاً من المنظومة البائسة
اللحظة الأكثر إيلاماً في النص هي عندما (أخرجت من جيبها جيباً) هذا التكرار السحري يشير إلى البحث في أعماق الذات، في أكثر الأماكن حميمية. ما تجده ليس ذكرى بل جسداً مقطوعاً من الحبيب: (إصبعها وهو يمسك بوجه حبيبها الملقى على أحد الزوارق بلا شفتين
هذه الصورة الصادمة هي قمة التشيؤ والتفكك. الحبيب لم يعد سوى جثة مبتورة والعلاقة لم تعد سوى إصبع ميت يمسك وجهًا (بلاشفتين بلا قبلة بلا كلام). إنها نهاية الحب في عالم لا يحتمل الرقة
نهاية الشخصية الأنثوى هي استسلام تام للعبث.(قبّلت لوحاً) ربما لوح قبر أو خشبة الزورق (وصارت وردة نوتيّ لا يرغبها القدر إنها تتحول من كائن حي إلى شيء(وردة) ولكنها وردة غير مرغوبة حتى من قبل القدر نفسه. إنها صورة نهائية للجمال والضياع معاً حيث يتم رفض التضحية حتى من قبل القوة الكونية التي يفترض أنها تتحكم بكل شيءجيب الزورق ليست قصة يمكن تلخيصها، بل هي تجربة شعورية وجودية. (واثق الچلبي) من خلال لغته الشعرية المتوترة وعالمه السريالي الكابوسي يقدم تشريحاً لروح إنسانية منهكة تعيش في عالم ما بعد كارثة (ربما تكون الحرب والدمار العراقي خلفيتها غير المُعلنة
النص هو ترنيمة للموتى الأحياء للعشاق الذين تحول حبهم إلى أشلاء وللأمل الذي يسقط في جيوب الموت. إنها قصة ترفض القراءة السهلة وتتحدى القارئ لمواجهة العبث والجمال معاً في آن واحد مخلّفةً وراءها أصداء من الحزن والأسئلة الوجودية التي لا تجيب عنها سوى صمت النهر والزوارق المنسية
القصة
جيب الزورق
——
بين عينٍ وشفة وقلوبٍ لاهثة تسقط النجمة في جيب الزورق ، لن تجد نخلة يتيمة تبحث عن خلود ، كل شيء حول خصرها يريد أن يعيش ، نهرٌ يتلمظ وشاطئ مخبول وسمكة تحاول أن تصبح قردا ، يا لهول الزوارق المنسية ، جيوبها أفواهُ رمال شيخٍ عتيق أراد أن يعشق أنثى فكان مصيرهُ حبة ملحٍ في جوف حوتٍ لا يعلم أنه في الماء . تتراءى لهما النجوم مقلوبة الأثداء فتنهره كي لا يمسك نعومة الكذب على ارتعاش الرجيف ، مضتْ تستر عورته بقبلة الرماد لكنه انزاح للزورق يحطم أخشابه بعويلٍ أبكم . حاورته مجنونا وضمته جمرة خوف من ضياع انتبهتْ على نفسها فوجدت صدرها مكشوفا لتلك الزوارق كلها وساقها لم تعد تعمل إلا بختم الأواخر من أصداف الأوجاع ، أخرجتْ من جيبها جيبا فوجدت فيه إصبعها وهو يمسك بوجه حبيبها الملقى على أحد الزوارق بلا شفتين ، قبّلتْ لوحا وصارت وردة نوتيٍّ لا يرغبها القدر.




