عشق يتجاوز الجسد: تأويل العبارات في مدارات الروح / منال رضوان

هيئة التحرير28 يونيو 2025آخر تحديث :
عشق يتجاوز الجسد: تأويل العبارات في مدارات الروح / منال رضوان

عشق يتجاوز الجسد: تأويل العبارات في مدارات الروح

منال رضوان

إن آدابنا الشرقية تزخر بطيفٍ أدبيٍّ شديد البهاء، ألا وهو أدب العشق؛ حيث لا يكون الحب وصفًا لعلاقة بين اثنين فحسب، بل فعلٌ وجوديٌّ يعبر بالذات من حدودها إلى آفاق المطلق، إنه لغة تتجاوز الجسد، وتكتب بالوجدان ما تعجز العيون عن رؤيته، والعبارات عن حصره.في هذا الطيف تضيق العبارة كلما ضاق فهمها؛ فالإسقاط – ولا ريب – وظيفة المتلقي؛ لذا فسجنها في إطار العشق الجسدي فقط، إنما يعني اختزالها في أضيق تأويل، وإسقاط محدودية الوعي عليها، لا سعة النص.

بذا يمكننا أن نلامس ثلاث طبقات تأويلية متداخلة:

أولًا، العبارة ككائن حي، لا تنغلق على معنى واحد، بل تتّسع وفقًا لأفق المتلقي، فإن ضاق هذا الأفق، ضاقت هي، لا لقصورٍ فيها؛ بل لقصر نظرة المتلقي إليها، من هنا يتجلى جوهر الفعل التأويلي؛ إذ تنسلّ العبارة من قعر الجسد لتجد مأوى لها في خيال القارئ، وتعلو صوب ما هو أسمى من الواقع الحرفي، لتغدو نافذةً مطلّة على الوجود كله، كما يقول ابن الفارض في تائيته:

(زدني بفرط الحب فيك تحيّرًا … وارحمْ حشًى بلظى هواكَ تسعّرًا)

هنا لا يتحدث الشاعر عن نزوة جسدية طرأت له؛ بل عن حالة انفجار وجداني، تحرك الوجدان، وتوسّعُه حتى يغدو الكون كله حبًّا متسربًا.

ثانيًا: يحل العشق بوصفه رمزًا متعدد الطبقات، فإذا اختُزل في الجسد فقط، انتُزع من أبعاده الروحية، والوجدانية. فالعشق في النصوص الرفيعة، كما في التصوف أو في الأدب العميق، ليس مجرد رغبة زائلة، أو متعة منتهاها التأقيت أو التبعيض، بل هو نداء نحو المطلق، نحو الذوبان، نحو معنى يتجاوز الجسد وينفذ إلى الروح، وهنا نلتفت إلى ما كان من شأن الحلاج، الذي فاض عشقه حتى قال:

«أنا من أهوى ومن أهوى أنا …

روحان حللنا بدنًا … روحه روحي وروحي روحه»

فهو لا يخاطب جسدًا، بل يقيم اتحادًا روحانيًا، يفني فيه ذاتَه ليحيا في ذات المحبوب، -هذا بالقطع من دون أن ندلف إلى ترهات إشكالية وحدة الوجود وتأويلاتها التي لا مجال إلى طرقها في ذلك المقام-  نعود إلى العاشق؛ ففي توصيفه لمنازل القرب قال:

«الحلم جنين الواقع»

وفي النثر الصوفي الواضح:

(حقيقة المحبة، قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك والاتصال بأوصافه)

هنا، يتحول العشق من مجرّد شهوة، إلى حالة حضورية تُفنى الذات فيها في الحب الإلهي، حالة فناء تذيب الفاصل بين العاشق والمعشوق.

أما الطبقة الثالثة، فتخص القارئ، لا كمتلقٍ سلبي، بل كفاعل تأويلي؛ إذ أنه لا يستقبل النص فقط؛ بل يُسقط عليه تصوراته، ويفسّره، ويعيد إنتاجه وفق شيفراته الذاتية، النفسية، الثقافية.

وهنا تكمن خطورة الفهم الذي يُعتقد أنه “بديهي”، لأنه قد يكون حصرًا وتقييدًا، لا فتحًا واكتشافًا وكشفًا،

فحين يقرأ القارئ:

(وما لي سوى روحي، وباذِلُ نفسِهِ في حبِ من يهواهُ …

ويجد فيها وهجًا يتجاوز المعاني الحسية، فإنه يدخل في تجربة فكرية صوفية، تتخلّق المعاني فيها، ويتناسل التواجد ليتجاوز سطح العبارة.

والحديث هنا – قولًا واحدًا – لا يدور عن علاقة ثنوية جامدة بين القارئ والنص، كأن يكون أحدهما فاعلًا والآخر مفعولًا به؛ بل عن تفاعل حيّ يتجاوز هذا التقابل الصارم.

فالعلاقة الثنوية، من حيث هي تقسيم حاد بين “ذات” و”آخر”، تنهار حين يصبح القارئ شريكًا في التكوين، لا مجرد متلقٍ، وهكذا، يتحول النص من كيان مغلق إلى مرآة ديناميكية تعكس القارئ بقدر ما تعكس ذاتها.

ومن هنا، يصبح النص الصوفي العالي أو الأدب المحمّل بإشارات العشق، ليس ساحةً للشرح؛ بل فضاءً للتورط، للدخول والانخطاف؛ فالقارئ المهيأ – دون أن يشعر – يُعاد تشكيله وهو يقرأ، كأن النص يعيد هندسة وجدانه من الداخل، فينقله من طور المعنى إلى طور المعايشة، ومن طور التأمل إلى طور التجلّي.

في هذا الإطار، لا بدّ لنا من التوقف عند تجربة جلال الدين الرومي، المتوسعة أبعادها في أدب العشق، حين يقول:

(أيها العاشق الغريب، أغلقتُ جميع الأبواب أمامك حتى لا تجد باباً آخر غير بابي).

فلا ينحصر الحب هنا في ذات المحبوب الظاهر؛ بل في الباب المفتوح دومًا نحو الحقيقة العليا، نحو المطلق الذي لا يُحاط به، بل يُعاش ويُذاب فيه؛ ذلك لأن جوهر التجربة العاشقة – كما تراها النصوص الصوفية – ليس في الوصل ولا الفقد، بل في التعلق بما لا يُطال، والإقامة في شوقٍ دائم يُربك الحواس، ويُحيل اللغة إلى ارتجاف؛ فتكتب العبارات نفسها وكأنها تنتفض على حافة المجاز، لا تستقر، لأنها لا تعبّر عن معنى واحد، بل عن كثافة شعورية يتعذر القبض عليها أو الإمساك بها؛ بغية الإقامة والثبات.

بناءً على ما سبق، تتضح الطبقات الثلاث كما يضيء النجم في سماء التأويل، ليمكن تلخيصها فيما يلي:

إن العبارة لا تنضب إلا بانحراف فهم المتلقي، والعشق لا يضيق إلا بفهمٍ محدود، والقراءة ليست إسقاطًا لثنائية قسرية بين القارئ والنص؛ بل هي انفتاح على فعل جمالي وروحي يتجاوز الذات نحو المطلق، حيث تتحول الكلمات إلى إشارات، والإشارات إلى وجودٍ نابضٍ بالعشق.

عاجل !!