هناك دائما موضوعات مشتركة بين الشعراء وتعد موضوعات عصرية , وجديدة كموضوع المدينة ,ولمدينة الناصرية الأثر الكبير على ما كتبه الشاعر رشيد مجيد ففيها تعلم كتابة الشعر , وتحسس أجواءه وفيها أحب , وعانى الاضطهاد لسنين طويلة , ولعله لم ينظم الشعر خارج مدينته , وفي قصيدة ( مدينتي) بشكلها التقليدي , والتي تزاحمت فيها صور رائعة , وإبداع تام يلم عنه انسياب عواطف الشاعر , ومشاعره , الذي تخلل كل زاوية من الناصرية ولعل حبه لمدينته يطغى دائما, ونحس لفح عواطفه , واعتزازه بمدينته الناصرية , فنراه يقول:
من أمس أمس وقبل ان يضع البشر
أسس الحضارة كنت أول من ظهر
أطلعتها فجرا ينور عالما
يمتد من عصر تغيب إلى عصر
من قبل (اوريدو) وكل رسالة
ما كنت إلا فجرها الالق الأغر
ان مدينة الناصرية على بساطتها , ومجهول هويتها لا تخلو من المزايا , بل ان كل ما في العالم من مزايا , ومثل أنما هو مدين لها على الرغم من ضياعها , إذ ان الإنسان مهما كانت هويته أنما هو مدين بفنه , ومعتقده إلى هذه البقعة التي لا نظير لها في عالمنا هذا , والتي لا يشعر بقدسيتها إلا القليل من الناس المدركين إسرار التاريخ المتوغلين مع الزمن العارفين أين وضعت نواة أول حضارة في هذا العالم الفسيح , فقبل (اوريدو) التي هي أسطورة من أساطير السومريين كانت هذه المدينة , بل هذه المدن المتناثرة هنا , وهناك على شواطئ الفرات الخالد , ومدينة الناصرية هذه البقعة بالذات لما فيها من مميزات حضارية عريقة , هي مهبط الإنسان الأول , ورشيد مجيد أحب مدينته ,وعشقها ,ودافع عنها , فنراه يقول :
تصفو مرايا الموج تحت ظلالها
وترجها أيدي النسائم في السحر
فتعود بعد شموخها سكرى
كأن يدا ترنحها فترقص في خدر
تمتد أورقة تطول على المدى
تيها فلا يدري نهايتها البصر
والشمس أروع ما يكون مغيبها
ياقوتة ودم وتبر منصهر
وأول مظهر من مظاهر معاناة رشيد مجيد لحياة المدينة يتمثل في شعوره بالوحدة فيها , وربما ارتبط هذا الشعور بالتجربة العاطفية لشاعرنا , إذ يحشد هذا الشعور حين يفقد الشاعر من يحب , فعند ذاك يتمثل هذا الشعور بالوحدة قويا , على الرغم من زحمة المدينة بالناس والأشياء , ومن الطبيعي ان يلجأ رشيد مجيد إلى حب المدينة بعد ان خسر حبه الأول (ليلى) , فيعوض عن هذا الحب بحبه لمدينته بسبب الفشل الذي مر به الشاعر في حياته , وارتباطه بمدينة الناصرية ارتباطا حميما يعيش حلمها , ويعبر عن تفاصيل حياتها اليومية بعمق وحيوية , ويخاطب المدينة بشعر غزلي, ووجداني , تحس فيه رقة الرومانس , فنراه يقول :
تتلمس الأمواج دفء جمالها
ويجن مزهوا بها المحار
والعاشقون يضيق في ترنيمهم
بين الضفاف اللحن والقيثار
يتهامسون وللصبابة عندهم
نجوى يبوح بسرها المزمار
والناصرية مدينة يمسح الفرات دفء ذاكرتها صباحا ومساء , وكل ما فيها من بؤس ومن عذاب يوحي للإنسان العادي أو البسيط ان يقتحم أبواب العوالم الغريبة والمدهشة , فكيف إذا كان هذا الإنسان شاعرا ذا حساسية مرهفة تربطه بأعماق التجربة السائدة في وطنه , وأمته , وعصره , ذلك لان معاناة الشاعر وإحزانه لا تحمل هنا أي مبرر شخصي مستقل ثم ان وداعة المدينة , وهدوءها عامل مهم لانفراد الفنان مع ذاته لكي يمارس لحظات الحيوية والذهول , فنراه يقول :
حلم الجنوب مدينتي يا إلف
أغنية ترددها الليالي في السمر
في كل همسة عاشق نجواك
تستوحي الهوى لحنا يموج مع الوتر
وعلى فم المترنمين تئن أحرفك
ابتهالات يرقصها السهر
ان الشاعر رشيد مجيد يتأمل مدينته بوعي حزين , وقد اتخذ منها منطلقا لتكون نموذجا لما يجري في مدن العالم المظلومة , والمضطهدة فها هو يلقي على أنهارها , وضفافها , ونخيلها الأسئلة , تلو الأخرى , ويبعث من جديد تاريخها المجيد فإنها مدينة الملاحم , وما تنسج من أخيلة جميلة مدينة الليل , وما تلتاع من أغنية حزينة , فنراه يقول : سألت عنك النهر والضفاف والنخيلا
سألت عنك الريح والرمال والطولا
فكنت يا مدينتي
حكاية طويلة
مدينة الملاحم الأولى
وما تنسج من أخيلة جميلة
وشاعرنا رشيد مجيد يمتلك حسا مرهفا في حب مدينته الناصرية , وناسها الطيبين , ويجسد هذا الحب عبر قصائده الشعرية , التي تغنت بحب مدينته الناصرية التي ولد فيها الشاعر , وترعرع في أكنافها , وتروى من ماء فراتها العذب الذي تفجر شعرا عذبا ظل محفوظا في ذاكرة أبناء مدينته , ومحبيه , فنراه يقول :
ولقد وعت بدء الدنا
وطفولة العصر التي
احتجبت وميلاد القمر
ورفيف أجنحة الملائك
حيث تحتضن السماء
الطيبين من البشر
لم يبق من هذه المدينة الضاربة في القدم سوى ما تركته لنا الأساطير السومرية , وسوى بعض من زقوراتها , وبقايا محار متناثر هنا , وهناك بعد ان هجرها البحر , وابتلعتها رمال الصحراء , فنراه يقول :
عفت الرسوم ودكت الأسوار
وتعفرت بجلالها الآثار
وتحيرت فيك العقول فمطرق
متأمل أو ذاهل محتار
ان هذه المدينة وبحسب ما يراها الشاعر رشيد مجيد, بأدواتها الجديدة , وعلاقاتها المتطورة , لا تكف عن اختزال الماضي ومسخه , فاتجهت هياكل العتيقة الخاوية طقسا عباديا على قدر من الصراحة , والقداسة إذ يتعذر معه , فالمدينة بطقوسها وفلكلورها وطفولتها القديمة , وبأصالتها الضاربة في بطن التاريخ قد قدر لها ان تهجر في عز الظهيرة , وأمام عين الشاعر , فنراه يقول :
هجروك في عز الظهيرة
وأمام أعيننا
حيث يمارس المتسللون
طقوسهم
ويباركون مواسم الغزو الأخيرة
صور لنا الشاعر من خلال معاناته , وملاحظاته للحياة , كيف تقطعت في المدينة العلاقات الإنسانية في أدق صورها , والتي لم يكن الإنسان يتصور انقطاعها في يوم من الأيام , انه ينتقد المدينة التي انفتحت على الحياة فبسبب هذا الانفتاح تعرضت للأمراض الاجتماعية , والملق , والرياء , والشاعر يريد حياة البساطة , والطبيعة , فنراه يقول :
في هذه المدينة المسورة
يحتبس الهواء
كالوباء في صدورنا المحتضرة
وتكذب البسمة
إذ نمطها على الشفاه المجبرة
ونجده في نفس أنساني , وإيقاع مجروح بالتجربة التي تجعل لوقع الصور طعما خاصا , يصور قلق الشاعر في مسيرته , وحياته , ويسوق ألينا اليأس والضياع بلغات رائعة, ولقطات جميلة , فنراه يقول :
مدينتي المضاعة
مدينة الإملاق والدموع والمجاعة
مدينة الربا
وما العنها من جزية مطاعة
والشاعر يرى بان كل شيء في هذه المدينة يصيح , ويستغيث , وكل شيء فيها يئن , ويتألم , فقد ولدت كسيحة , وظلت تجر خطاها , دون ان تسعفها يد , أو يقيل عثارها احد , لذلك أصبح يخاطب مدينته بشعر ثوري يدل على ثورة الشاعر على المدينة , والزمن , فنراه يقول :
مدينتي
لابد للأرض على طغيانها
من منتظر
لابد ان تنتفض الموتى , وتنشق الحفر
لابد ان يفلت من
تحت رماده الشرر
ونستطيع القول بان الشاعر رشيد مجيد عاش مدة طويلة في الغربة والحزن , وربما يتحدد ذلك بفقده الحب الأكبر ( ليلى) وافتقاده الأصدقاء المخلصين , وأصابته بمرض الصمم والقلب , فضلا عن ذلك بسبب فساد المدينة , مما أدت به الحال في أواخر حياته ان يلجأ إلى العزلة , واختار حياة الوحدة وابتعد عن كافة الأوساط الأدبية , ومحافلها التي كان يعيشها في المدة الأولى من حياته , ولعل من أهم الأدلة على حب الشاعر رشيد مجيد لمدينته , وتعلقه بها انه طلب في وصيته * ان يدفن في مدينة الناصرية , ويبقى في أحضانها بعد موته , وهو دليل واضح على حب الشاعر لمدينته , ومن وفاء المدينة للشاعر رشيد مجيد إنها احتفلت به يوم تكريمه كشاعر مبدع لذلك يقول واصفا احتفال المدينة به :
واحتفلت مدينتي بالشاعر
بالألم المكابر
بجرحه وما ينزه وفي أشيائه




