“شجرة الأحلام العالية” هي مجموعة قصصية للمنذر المرزوقي تميزت بحضور الذات الشعرية في السرد. فالسرد الذاتي يفتح المجال الحر للشخصية لتتحرك بتلقائية في الفضاء السردي وتعلن عن رؤاها، وكما قال كلارك: “إن إدخال العالم من وجهة نظر الذات، يفتح الباب على مصراعيه لخيال تقدّم العالم كما تراه، ويفتح الطريق لولادة لغة الذات الشعرية”.
يسقط الراوي ذاته على المواضيع الخارجية ويُبدي وجهة نظره، مع التخلص من عبء آراء الشخصيات الأخرى وتوجيهها، ليبرز مدى قدرة السرد على تمثيل وتشكيل لعبة التخييل وبلورة القالب الحكائي للقصة. ويتدفق هذا الخيال، خاصة بحضور ضمير المتكلم في السرد أو الراوي الذي يكشف عن أحاسيسه وتأملاته ولحظات الوعي واللاوعي. فحضوره يكشف عن علاقة الشخصية بالأشياء من خلال منظور نفسي وذهني، وترددات الدهشة والحيرة والمفاجأة.
يبرز الضمير المتكلم والمحتوى العاطفي في قصة “حمّى وإرهاقات الحرية”، القصة الأولى من المجموعة. فهي طافحة بالمشاعر والعاطفة إزاء الجسد والرغبة في الاستسلام لعالم حر. الراوي نفسه هو الشاعر الذي يروي قصته بصيغة المتكلم المفرد، يعطي الانطباع أن روايته للأحداث مبنية على وقائع حقيقية. فهو محور العالم السردي، كل شيء من حوله يدور حوله، بل ربط معاناته النفسية بتضاريس الجسد وقدم قراءة سيميائية لوجعه من خلال انحناءة الجسد والوجه الواجم والزفرة والحمّى والبحث عن مأوى داخل الأرض. لقد جسّد شعوره بوصفه حالات الجسد عبر استسلامه للبرد والمطر. لم يقل إنه يشعر بالعراء أو بالتعب أو بثقل الحياة، بل صوّر تعرّض الجسد لسياط الصقيع. فهو شاعر مرهق يعيش صدق المعاناة، مما يجعل حواس القارئ تتفاعل معه وكأنه يشعر بأن عاصفة اعترضته. كما يشتغل الراوي على اللغة النفسية والتصويرية ليبيّن أنه حر رغم معاناته، من خلال فكرته عن الحرية؛ فهي تتحقق عبر التجارب الحسية المؤلمة، لكنها تغذي التفكير التصوري وتشحذ خياله ليتصور الحرية كطوق للنجاة أو علاج يضمد أوجاع الروح والجسد. ورغم قتامة الواقع وتمثلات الذات الداكنة له، تبقى فكرة الحرية تراود الراوي.
وعودة لعنوان قصة “حمّى وإرهاقات الحرية”، فهو يجمع بين حالة الغليان واستيهامات النفس والجسد وبين التطلع للحرية. فمن خلال العنوان تتضح فكرة القصة، بل مفهوم السرد الذاتي: هو تجربة تحرر، وقد انعكس ذلك في الخاتمة بقوله: “الحرية حمامة لا تُحجز، وكلمة لا تُصادر، ونبضة متدفقة في قلب الوجود المتواصل”. فتنقلب الذات من التعبير عن تمثلات النفس والجسد إلى بلورة الفكرة بوعي تام، وبلغة تنمّ عن وعي فكري واضح ولغة تفسيرية.
يستخدم السارد الضمير الموضوعي في قصة “شجرة الأحلام العالية”، التي نلمس فيها شعرية الشخصيات في تعاملها مع الأشياء والعالم الخارجي، إذ يرسم السارد شجرة طوباوية محملة بالأسرار والتمائم والتعويذات لحل الألغاز؛ شجرة جذابة متجذرة خلف عالم شفاف، شجرة مُلغّزة محملة بالأسرار الغامضة. ما يميزها علوها وأغصانها وأوراقها الخضراء كأنها نجم محمّل بإشارات الغيب. تقترب من الأشخاص، تتسع لأهل المدينة، وتمنح الطمأنينة، ولكنها كائن رهيف أمام مآسي الطفل.. تأثرت بخوفه وهواجسه حدّ الذبول والشحوب، ثم استعادت نضارتها. إن السرد الموضوعي يتوغل في تشخيص الجماد وشحنه بالعواطف الإنسانية، يمارس لعبة التحويل والتبادل بين الذات والموضوع. فالسارد ينقلب إلى راوٍ خفي محتجب، يحمل مرارة وشعورًا بالأسى، ومجرد الكشف عن حزنه قد يكشف عن صورة عقيمة جرداء. هي الشجرة التي تمثل الآخر المتفاعل مع هموم الذات؛ هي الأحلام العالية التي يتسلقها الإنسان بجهده ومجاهدته وضآلته وهشاشته. فالشجرة تتكلم لغة الإنسان وتحمل أحاسيسه الجياشة، وبالتالي تندمج في ذات السارد وفي الذات الإنسانية، من الترميز إلى التجريد. هي شجرة الأمومة الطوباوية لأنها تعكس مخاوف الشخصيات الأخرى من كبتها واستسلامها للحزن…
في قصة “رقصة الطائر الحالم”، يتوخى الكاتب السرد الموضوعي معتمدا على الحوار بين شخصيتي القصة وعلى اللغة التصويرية. فالراوي ينقل الصور المرئية وأصوات الشخصيات، يرى كل شيء ويستمع إلى الحوارات ويعرف كل شيء؛ فهو لا يكتفي بالتحديق والاستماع، وإنما نرى الشخصيات من خلال عينه الشعرية، حيث يتداخل الذاتي مع الموضوعي ولا يمكن للمتلقي الفصل بينهما.
أثناء الحوار بين شيخ وشاب في المبنى الذي يقيمان فيه، يتأمل الشيخ أشعة الشمس الدائرية التي تتسرب من أغصان شجرة الليمون، يبتسم لدوائر الضوء المتراقصة كأنما يبسم لأطياف من الغيب، بينما الشاب يحلم بالجري في رحاب الأرض تحت الشمس، يصعد الهضاب، ينام في الكهوف، يستحم في الأودية والعيون مثل طائر راقص. فالشخصيات حالمة تصبو نحو الانعتاق، شخصيات رومانسية: فالشيخ يتذكر لعبه في الغابة مع الأطياف الخفية، لتطلق حركات الحلم والتحليق والجنون تخضبها قطرات رذاذ شفاف. أليس هذا عودة لينابيع الشعرية، للحظات الطفولة والانعتاق من أسر المكان والزمان؟ في قصر حسيني، حديقة على الطراز الفرنسي، تصميم إيطالي للباب الخشبي الأزرق المرصع، لكنه مبنى يذكّر بالقهر والتسلط، يفقد شعريته، كما تفقد حديقة المبنى بعض أشجارها وأزهارها وروادها. سور حجري فوقه سياج من حديد، درج رخامي، أسدان يحرسان المبنى الملكي.. الحلم يصطدم بالمكان، والنتيجة: حقن منوّمة ومهدّئة، صعقات كهربائية قد تميت الجسد ولكن تحرر الروح من خلال استمرار أصوات رفرفة الجسد. القصة وإن رويت من خلال الراوي الموضوعي، فمحتواها الذات، العالم الداخلي، وتدفق المشاعر.
استخدم السارد اللغة التصويرية والتفاصيل الحسية لوصف المكان والشخصيات: الشيخ الملتحي، والشاب بشعره الطويل المجعد، تاركًا صورًا وانطباعات ذهنية. كما نقل لنا الحوار الخارجي ووصف المشهد من خلال زاوية معينة، واختار الإطار الذي التقت فيه الشخصيتان، ينقل صور الذاكرة والأفكار والمشاعر، ولكن الموضوع الأساسي هو غياب الانتماء لذلك المبنى الذي يجسد غزوات انتهكت خصوصية الهوية أو المنزل الأمومي الدافئ. امتزج الحوار مع المشهد وأفضى إلى حنين وتذكر وتوتر وتوجيه الحدث وجهة درامية.
قصة “الشيخ والزهرة”: في منحدر صخري رأى الشيخ زهرة حمراء ترمز للجمال والمغامرة عند الانعتاق من المكان. الشيخ تائه يدرك الوجهة والسبيل عند منح الأمل للوردة بتحويلها من الصخر الجاف إلى حوض من تراب سخي تزوره الفراشات لتطل على البحر والغابات والسهول. وتنتهي القصة بالأمل.
والسرد يتميز بالتحولات على مستوى الأحداث وأفعال الشخصيات، وتحول الأحداث من وضعية أولى إلى وضعية التحول أو الوضعية الطارئة ثم المرحلة النهائية. وقد حضر الحوار بكثافة. أما لغة القصة فهي فنية ذات دلالات إيحائية تتشكل داخل النص وتحيل إلى مراجعه الخارجية. وحرص السارد على تنويع أسلوبه في تعامل الشيخ مع الزهرة لإثراء الصور والمشاهد والسجل اللغوي في علاقة الشيخ بالزهرة. ونلمس الشعرية من خلال اختيار المفردات وترتيبها مع المحافظة على نغمة النص: نغمة الأمل والحرص على تربة صالحة تعطي فسحة للجمال كي لا يندثر ولا يتحجر ولا يفقد رونقه. وفي استعماله رمزية الزهرة حرص على جمالية الروح شكلًا ومعنى وتشبث ببهائها مهما ضعف الجسد؛ فهو مصرّ على التقاط إكسير الحياة جماليًا، وبذلك التقط السارد إدراك الشيخ بجوهرية الحياة وجمالها، وهي لا تقاس بالزمن وتأثيره على الجسد، بل بالزمن النفسي والتشبث بالحلم.
من السمات الشعرية حقيقة الشخصيات الداخلية، لا وعيها الذي يتمظهر من خلال التقمص أو الحلول في شخصية أخرى. في “قصة وجه القط” لا يقتصر تقمص الشخصية القصصية على الملامح بل على الحركة والعدوانية؛ هي حكايات اللاوعي لتتضح دوافع الشخصية. هي قصة لوجه إنساني اضمحل وتوارى خلف الملامح السنورية ليساير صاحبه نسق العصر الذي يفرض عليه سرعة الحركة: “نزل الدرج بخفة”، الاندفاع: “أحس بقوة الدفع في جسده”، أن يكشف عن عدوانيته كي يهابه الآخرون: “أنياب حادة، مخالب”. يكره تمسح القطط، وهي التي بإمكانها إشهار أنيابها ومخالبها. تنتهي الشخصية طيفًا يتابع جسدًا دون ثقافة، دون فن، دون معنى. وقد طغى على القصة البعد الكابوسي، يذكرنا بتحول سامسا إلى حشرة. في هذه القصة جعل السارد جسد شخصيته معطوبًا، مكبلًا بالغرائز والأخطاء.
الخاتمة
اختار القاص منذر المرزوقي اعتماد لغة تعكس شخصيته المبدعة. بالمكونات الداخلية والنفسية وما يكتنفها من حلم وجنون للشخصية، سلّط الضوء على قيم مجسدة في الأفكار والصور والأجساد قد تتجاوز المادي والملموس وأقفاص الواقع إلى عالم الروح الطليقة.




