شعرية التناص في قصيدة (نحمل الدماء) للشاعر واثق الجلبي ا.د مصطفى لطيف عارف

هيئة التحرير23 يوليو 2025آخر تحديث :
شعرية التناص في قصيدة (نحمل الدماء) للشاعر واثق الجلبي ا.د مصطفى لطيف عارف

    يعزو كثير من النقاد المعاصرين السبب في ظهور مصطلح التناص, واستعماله في الخطاب النقدي المعاصر إلى تأثير المدرسة البنيوية,وما فرضته من قيود صارمة على دراسة النص الأدبي ,إذ رفضت- في تناولها للنصوص الأدبية-كل أثر يشير إلى المبدع,وآرائه,ورؤاه الفكرية,وأكدت أن النص الأدبي بناء لغوي قائم بذاته,ويفسر نفسه بنفسه, ومن ثم فهو لا يحتاج إلى مؤثرات خارجية تقحم فيه إقحاما ,فنظرية التناصية- في رأي هؤلاء النقاد- قامت لمواجهة مغالاة البنيوية,والتخفيف من تأثيرها,من خلال إفساح المجال أمام التيارات النقدية الجديدة,لكي تأخذ دورها في الساحة النقدية ,وسواء أكانت البنيوية السبب الرئيس في ظهور مصطلح التناص أم لا,فان هذا المصطلح قد ظهر إلى الوجود فعلا على يد جوليا كرستيفا في بحوثها التي كتبتها بين عامي      ( 1966 -1967),ومن ثم تبنته جماعة(تيل كيل)النقدية,وانتشر بعد ذلك في المحافل النقدية بسرعة كبيرة, واستعملته مدارس كثيرة: تفكيكية, وبنيوية, وسيميولوجية, وأسلوبية, وتفسيرية كما مبين عند واثق الحلبي 0

أن الدلالة الحديثة للنص لم تكن غائبة كليا في المعجم العري,وهي تلتقي أيضا مع دلالته اللاتينية التي تشير إلى معنى بلوغ الغاية,والاكتمال في الصنع,وهذا المعنى لابد أن ينتقل إلى النص الأدبي الذي يمتاز عن النص العادي عند فاضل ثامر ,وثمة تعريفات متعددة لمصطلح النص تعكس توجهات أصحابها فلقد عرفه بول ريكور لنطلق كلمة نص على كل خطاب تم تثبيته بوساطة الكتابة,أما جوليا كريستيفا فلقد عرفت النص في كتابها علم النص  تعريفا جامعا إذ قالت:نعرف النص بأنه جهاز نقل لساني يعيد توزيع نظام اللغة,واضعا الحديث التواصلي,نقصد المعلومات المباشرة في علاقة مع ملفوظات مختلفة سابقة أو متزامنة,ويعرفه رولان بارت :انه السطح الظاهري للنتاج الأدبي,نسيج الكلمات المنظومة في التأليف,والمنسقة بحيث تفرض شكلا ثابتا,ووحيدا ما استطاعت إلى ذلك سبيلا,ويورد محمد مفتاح تعريفات عدة للنص بحسب توجهات معرفية, ومنهاجية مختلفة, فهنالك التعريف البنيوي, وتعريف اجتماعيات الأدب,والتعريف النفساني الدلالي,وتعريف اتجاه الخطاب ليخلص إلى تعريف واحد في النهاية كما بينه احمد ناهم ,ومن استنطاق القصيدة الشعرية (تحمل الدماء) للشاعر واثق الجلبي  نجدها تحتوي على التناص الاقتباسي ,فالاقتباس في النقد العربي القديم,نوع من المحسنات اللفظية,الهدف منه إضفاء نوع من القداسة على النصوص المقتبسة,وإظهار براعة الشاعر,ومقدرته,وقد عرفه شهاب الدين الحلبي بقوله:هو أن يضمن الكلام شيئا من القرآن,أو الحديث,ولا ينبه عليه للعلم به, وكانت البدايات الأولى للاقتباس صادرة عن عفوية,وبساطة,وبعيدة عن التكلف,والصنعة,فقد كانت وسيلة تعبيرية للتأثير في المتلقي,ولكن في عصور متأخرة أصبح الاقتباس حلية تزيينية بالغ  الشعراء في إثقال أشعارهم بها وفي القصيدة الشعرية  (تحمل الدماء ) نجد شاعرنا اعتمد على التعبير بوساطة القرآن الكريم,أو الحديث الشريف,أو خطب نهج البلاغة للجمال,والإبداع,فنراه يقول:-

نحمل الدماء

كغيمةٍ تحمل ماءً

نصبغ القبر من الداخل

وتجري أنفسنا على ظهر التخوم

فلا قمر ينير

ولا شمس تضي

 ومن الجلي أن الشاعر واثق الجلبي  هنا قد اقتبس كثيرا من الألفاظ,والجمل القرآنية مضمنا إياها قصيدته ,وقد تنوعت طريقة اقتباسه لها,فهو تارة ينقل بعض الجمل القرآنية نقلا حرفيا  , فهذه الجملة مأخوذة بحرفيتها من القرآن الكريم,وتارة يقتبس بعض الجمل القرآنية,بعد أن يحور فيها تحويرا بسيطا,إذ وردت في القصيدة وينظر إلى الاقتباس على انه شكل من أشكال التناص, واستلهام, وامتصاص للتراث, وتفاعل معه, إن نظرية التكرارية التي يلغي ديريدا وجود حدود بين نص ,وآخر تقوم على مبدأ الاقتباس, ومن ثم التناص, إن كل كلمة في النص الأدبي هي سابقة للنص في وجودها,كما أنها قابلة للانتقال إلى نص آخر حاملة معها تاريخها القديم المكتسب,ويعد الاقتباس آلية تكثيفية يتم من خلالها استحضار نصوص دينية معروفة عن طريق المتلقي الذي يقرأ جزءا منها,ويتم استذكارها كاملة لأنها معروفة,وليس هناك أدنى حاجة لذكرها كاملة في النص كما في قصيدة(تحمل الدماء ) للشاعر واثق الجلبي , ولاسيما في المقطع ا لآتي:

ولا صبر بلا أفواهٍ من الدعاء

أنظرُ إلي

أراني أعصر حلما

لا أترقب

لا أنظر في وجهي إلا ومعي

قلبٌ يتحملني

من يحمل هذا الألم الجميل ؟

 

إن الاقتباس جرى في (أراني أعصر حلما ) من خلال العبارة الأولى التي وردت في القرآن الكريم والتي ذكرت في سورة يوسف ((أراني أعصر خمرا)),يستحضر القارئ ليس الآية,والسورة كاملة فحسب,وإنما يستحضر معها كل الأحداث التي جرت في ذلك العصر,ولذا فان السياق يتداخل عبر الاقتباسات في القصيدة إذ نجد الشاعر اقتبس قول الحالم الذي طلب من النبي يوسف تفسيره حلمه , كذلك أراد الجلبي تحقيق حلمه وتفسيره في وقتنا الحالي 0

وأما التضمين فليس صورة من صور الاقتباس-على صعيد العلاقات التناصية-وان كان النقد العربي القديم قد فرق بينهما,من حيث انصراف كل منهما,إذ ينصرف الاقتباس إلى القرآن الكريم,والحديث النبوي,في حين ينصرف التضمين إلى الشعر عموما,وقد عرفه ابن رشيق بقوله: فأما التضمين فهو قصدك إلى البيت من الشعر أو القسيم, فتأتي به في آخر شعرك,أو في وسطه كالمتمثل,وأوضح تعريف للتضمين,واشمله نجده لدى ابن أبي الأصبع المصري فهو عنده:أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من بيت,أو من آية,أو معنى مجردا من كلام,أو مثلا سائرا,أو جملة مفيدة,أو فقرة من كلمة,والتضمين كما هو معروف هو الاستشهاد ببيت,أو أبيات عدة وهو من المداخل التي عرج المتناصون عليها,وذلك أن يستعير شاعر شطرا أو بيتا أو ربما أكثر من شاعر آخر يدرجه في بيت أو قصيدة له ,وحتى يصبح الأمر مشروعا على الشاعر الإشارة إلى ذلك التضمين بوضع علامات تنصيص, أو أن يشير في هوامشه إلى مصدر المقتطف الذي ضمن منه قصيدته بحيث يغدو النص المضمن متداخلا مع النص الأصلي وهذا معنى التناص بصورته الحديثة,ولنقرأ  للشاعر واثق الجلبي في قصيدته (تحمل الدماء ):

هكذا عصاي

لم أمسكها يوما

وهي تنام في السفينة

التي أنتظرها

وما زلت

     القصيدة تحاكي الواقع,هذه هي رؤية الشاعر الحلمية, تتبعها خصيصة أفعال علاماتية, تنطوي على مساحات أشاعها الشاعر,سحرا,وجمالا,في تدوين أدوات المقابل الصوري لفضاء دلالة الملفوظ, أننا نتوقف إزاء صياغات موضوعة تسويغ أفعال خطاب الصورة,لنرى ما وراء هذا الانزواء,والتقوقع داخل ذاتية الموصوف المباشر,فالنص في هذه المقطعية نجده يتشكل وفق حالة تأسيس مخالفة,وأجواء قصيدة التناص0

   وإذا كانت الذات لا ترى غير خراب مزمن يحيط بها ,بالآخرين,فان صورة هذا الخراب,ترتد إلى الذات مرة أخرى,وتنعكس لتؤدي دورها في الجسد,وتحت ضغط الألم,لا يجد الشاعر غير أن يبوح بمواجعه تلك,لعله يجد من يستجيب له0

 

 

عاجل !!