سوانح في الغدير / رياض العلي

هيئة التحرير15 يونيو 2025آخر تحديث :
سوانح في الغدير / رياض العلي

المصطلح الولاء ليس مجرد مرادف للطاعة السطحية بل هو تعبير عن البيعة والانقياد الذي ينبني على الاعتراف بالشرعية

تتجاوز شخصية الإمام علي بن أبي طالب كونها مجرد شخصية تاريخية أو دينية لتصبح بمثابة معيار حقيقي يُختبر به المتكلمون والدارسون على مر العصور

في سياق الاصطلاح السياسي والديني تتجاوز دلالة “الولاية” مجرد المعنى اللغوي لتلامس جوهر العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين الفرد ومَن هو قائم على أمره

العلاقة بين حدث السقيفة ومقتل الحسين ليست مجرد صدفة تاريخية بل هي سلسلة متصلة من الأحداث والنتائج

 

  • “الولي” في المخيال العربي والإسلامي

لطالما ارتبطت مفردة “الولي” في الوعي الجمعي العربي والإسلامي ارتباطًا جوهريًا بمفهوم الحكم والسلطة. هذه العلاقة ليست مجرد ترادف لغوي، بل هي انعكاس لبنية الأنظمة السياسية والاجتماعية عبر التاريخ. فالوالي هو الحاكم، والمنطقة الخاضعة لسيطرته هي الولاية، وهي لا تشير إلى مجرد حدود جغرافية، بل إلى نطاق نفوذ وسلطان يُمارس وفق شروط ومحددات دقيقة رسمها الفقه الإسلامي. حيث تمثل تجسيدًا لمبدأ الإشراف والرعاية العليا التي يضطلع بها الوالي تجاه رعيته، مما يمنحه شرعية وقوة في إدارة شؤون المجتمع.

لكن دلالة “الولي” لم تقتصر على الأبعاد السياسية والفقهية فحسب، بل تشعبت لتلامس عمق الحياة اليومية في التراث الشعبي العربي. ففي العراق، يُطلق على الزوج اسم “والي”، كما يتجلى في الأغنية التراثية “چي مالي والي” (لأن ليس لي والٍ/زوج). هذا الاستخدام ليس مجرد تسمية عابرة، بل هو تجسيد لمسؤولية الزوج ودوره كقائم على شؤون الأسرة، وراعٍ لمصالحها، ومصدر حماية لها. يعكس هذا الاستعمال الشعبية أن “الولاية” تتعدى حدود الحكم السياسي لتشمل أدوار الرعاية والحماية الأسرية.

وبالمثل، في التراث المصري، يُطلق على المرأة “ولية” في سياقات معينة، وهو ما يشير إلى دورها كأم، أو جدة، أو امرأة ذات مكانة واحترام، أو حتى كقائمة على شؤون بيتها. هذه التسمية تعكس الامتداد الدلالي للكلمة ليشمل مفهوم الرعاية والمسؤولية في نطاق أوسع، مما يبرز كيف تتغلغل المفاهيم الكبرى كالسلطة والرعاية في النسيج الثقافي للمجتمعات، وتظهر في صور متنوعة تعكس الأدوار الاجتماعية المختلفة. وهكذا، تتجلى كلمة “الولي” كمفهوم حيوي وديناميكي يتجاوز معناه الحرفي ليصبح رمزًا لديناميكية السلطة والرعاية في أبعادها السياسية والاجتماعية والشعبية.

  • “الولاية” في الاصطلاح السياسي والديني: أبعاد السلطة، الولاء، والقرب الوجودي

في سياق الاصطلاح السياسي والديني، تتجاوز دلالة “الولاية” مجرد المعنى اللغوي لتلامس جوهر العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الفرد ومَن هو قائم على أمره. إنها تشير في جوهرها إلى السلطان، لا بمعناه القهري دائمًا، بل بمدلول النفوذ والقدرة على التصرف والإشراف.

يتفرع من هذا المفهوم المركزي مصطلحات أخرى تُعمّق فهمنا لأبعاد “الولاية”:

 * “الولاء”: هذا المصطلح ليس مجرد مرادف للطاعة السطحية، بل هو تعبير عن البيعة والانقياد، الذي ينبني على الاعتراف بالشرعية، سواء كانت هذه الشرعية مستمدة من نص ديني، أو عرف اجتماعي، أو قوة سياسية. إنه رابط يُلزم الفرد بالالتزام تجاه الحاكم، ويتضمن أبعادًا معنوية تتجاوز مجرد الامتثال الظاهري.

 * “ولي العهد”: يجسد هذا المفهوم البعد المستقبلي للولاية. فهو ليس مجرد وريث، بل هو من يتأهب لـتولي الحكم في حال انتقال السلطة، سواء بوفاة الحاكم، أو عزله، أو تنازله، أو حتى غيابه. هذا يُظهر أن الولاية مفهوم يتسم بالاستمرارية والتخطيط للمستقبل السياسي، وهو ما يؤكد على أهمية الاستقرار ونقل السلطة المنظم.

 * “التولي”: يعبر هذا المصطلح عن فعل الانقياد والاتباع. إنه ليس مجرد قبول للسلطة، بل هو انخراط في مسار يُحدده الوالي، ويتطلب الطاعة والالتزام بالتوجهات. إنه فعل ديناميكي يعكس العلاقة الفاعلة بين الطرفين.

 * “المولى”: في هذا السياق، يُشير “المولى” إلى من يقع تحت سيطرة الوالي أو في حمايته. إنه ليس مجرد تابع، بل هو من يُناط به الوالي الرعاية والإشراف، وتلقي الأوامر والتوجيهات منه. هذه العلاقة تُبرز مسؤولية الوالي تجاه “المولى” وحق “المولى” في الحماية والرعاية.

تتجلى هذه الأبعاد حتى في العامية، كما في القول العراقي: “ولانا ولية” لمن يستخدم سلطته بقوة، مما يعكس فهمًا شعبيًا عميقًا لآثار الولاية وتداعياتها على حياة الناس.

إن جوهر كلمة “الولي” يُكمن في فكرة القرب. فالذي “يليك” هو الذي يدنو منك، يقترب بفعله منك، يتبعك، ولا يفارقك في الرخاء والشدة. هذا البعد من القرب والاتباع لا يقتصر على المفهوم المادي المحدود، بل يتغلغل في عمق العلاقات الإنسانية والاجتماعية والروحية. إنه يُشير إلى ارتباط وثيق، يتجاوز المصلحة العابرة ليصبح علاقة وجودية تقوم على الدداخل والاتصال، سواء كان ذلك في سياق سياسي، اجتماعي، أو ديني. فـ”الولي” بمعناه الأعمق هو ذاك الذي يكون قريبًا، ملتزمًا، ومناصرًا في كل الظروف.

  • “المولى” بين دلالة السلطة وأفق المحبة: إشكالية تأويل في الفكر الإسلامي

تُثير دلالة كلمة “المولى” جدلاً لغويًا وتاريخيًا عميقًا، خاصةً عند ربطها بمفهوم المحبة في الخطاب العربي والإسلامي. فالمُتتبع لأمهات اللغة العربية يلاحظ أن الاستخدام الأصيل لكلمة “المولى” لم يُخصص للدلالة الصريحة على المحبة الغرامية أو العاطفية. لا تكاد تجد في ذخائر الشعر الجاهلي أو صدر الإسلام، ولا في النثر والخطابة البلاغية، عاشقًا يتوجه إلى معشوقته بلفظ “أنتِ مولاتي” ليُعرب عن هيامه أو تعلقه الوجداني بها الا في سياقات معاصرة متأثرة بالمفهوم الذي أقر فيما بعد لأسباب سياسية، هذا الغياب اللافت يطرح تساؤلاً جوهريًا حول كيفية ترسخ دلالة المحبة ضمن معاني “المولى” في بعض التأويلات اللاحقة.

تتفاقم هذه الإشكالية عند تناول حديث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “من كنت مولاه فهذا علي مولاه”. فإذا كان البعض قد اجتهد في إضافة معنى المحبة والمناصرة إلى كلمة “المولى” في هذا السياق، فلماذا يُحصر المعنى في هذا البهم المحدود، ويُغفل بقية الدلالات الأخرى الأصيلة والجذرية للكلمة التي بيّنتها اللغة؟

إن جوهر كلمة “الولاية” في اللغة يدور حول القرب والاتباع، والسلطة والإشراف، والنصرة والحماية. هذه المعاني لا يمكن فصلها عن مفهوم “المولى”. فهل يمكن أن تتحقق المحبة الصادقة والمناصرة الفاعلة دون هذا القرب الوجودي، وهذا الاتباع العملي، وتلك النصرة الحقيقية التي تُشكل اللبنة الأساسية لدلالة “الولاية”؟ إن تجاهل هذه الأبعاد الجوهرية في سبيل التركيز على المحبة المجردة قد يُفضي إلى تفريغ الكلمة من حمولتها الدلالية العميقة، ويُحولها إلى مفهوم عاطفي سطحي لا يتناسب مع السياق التاريخي والرسالي لحديث الغدير. هذا التساؤل يدفعنا إلى إعادة النظر في منهجية التأويل، والبحث عن فهم يجمع بين الأبعاد اللغوية والتاريخية والرسالية لمفهوم “الولي” و”المولى”.

ما هي الدلالات الأخرى التي قد تُغفل عند التركيز على “المحبة” كمعنى وحيد لـ”المولى”؟

  • حديث الغدير: إشكالية الدلالة بين الولاية السياسية والمحبة المجردة

يطرح حديث الغدير، بمقولة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “من كنت مولاه فهذا علي مولاه”، تحديًا تأويليًا عميقًا يتجاوز مجرد المعاني اللغوية ليلامس جوهر الصراع على السلطة والمشروعية في التاريخ الإسلامي المبكر. إنّ السياق التاريخي المحيط بهذا الحدث يُلقي بظلال كثيفة على محاولة اختزال دلالته في مجرد المحبة الوجدانية.

فالوقائع الموثقة تُظهر أن قسمًا غير قليل ممن شهدوا هذا الإعلان، وربما سمعوه مباشرة، سرعان ما انقلبوا على الإمام علي (عليه السلام)، وقاتلوه في حروب طاحنة، ورفضوا نصرته. كيف يمكن للمحبة، وهي أسمى معاني الود والتقارب، أن تُفضي إلى هذا العداء الصريح والقتال المستميت؟ إنّ هذا التناقض الصارخ بين ادعاء المحبة وواقع العداء يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول المعنى الحقيقي للولاية في هذا الحديث:

 * لماذا اختص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام عليًا بهذا الإعلان دون غيره؟ لم يكن الإمام علي (عليه السلام) مجرد صحابي جليل، بل كان ابن عم الرسول وصهره، وأحد السابقين إلى الإسلام، وصاحب المواقف البطولية في الذود عن الدعوة. فهل كان هذا التخصيص مجرد إشارة إلى محبة شخصية، أم كان يحمل دلالة أعمق تتعلق بمستقبل الأمة وقيادتها؟

 * ما الحكمة من جمع تلك الجموع الغفيرة في لهيب الصحراء بغدير خم للإبلاغ بهذا النص؟ لم يكن تجمع المسلمين في هذا المكان والزمان مجرد صدفة، بل كان حدثًا مخططًا له بعناية. لو كانت الدلالة تقتصر على المحبة فقط، فما الحاجة إلى حشد الآلاف في ظروف قاسية كهذه؟ ألم تكن رسالة المحبة يمكن أن تُبلّغ بطرق أقل مشقة وأكثر اعتيادية؟

إنّ هذه التساؤلات تُعزز الرؤية القائلة بأن حديث الغدير لم يكن إعلانًا عن محبة مجردة فحسب، بل كان يحمل في طياته دلالة سياسية وإمامية واضحة. وضوح النص في أمهات كتب التاريخ والسيرة، على الرغم من الجهود المبذولة لإنكاره أو تحريفه، يُشير إلى أهميته المركزية. وقد وصف النص الأصلي هذه المحاولات بأنها صادرة عن “خدم السلاطين ولاعقي أقدامهم، عبيد الدراهم وأذناب إبليس”، وهي عبارة تكشف عن دوافع تزييف الحقائق وارتباطها بخدمة الأجندات السلطوية. إنّ الحقيقة، كما يُشير النص، كانت “واضحة كالشمس في وضح النهار في يوم الغدير”، مما يجعل محاولة تغييب دلالتها السياسية أمرًا يتطلب تبريرًا عميقًا.

  • بين الرسالة والنبوة: التمسك بالشخص وإهمال الجوهر

تُعد الطاعة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ركنًا أساسيًا في الإيمان، وقد نص عليها القرآن الكريم بوضوح تام. غير أن التحليل المتعمق للسياق التاريخي يشي بأن ثمة مفترق طرق خطير حدث في فهم هذه الطاعة؛ فقد “ضيّع البعض الرسالة وتمسك بالنبوة”. هذا الانفصام الدلالي يعني أن الاهتمام انصبّ على شخصية الرسول ككيان معنوي ومبعوث إلهي، بينما أُهملت جوهر الرسالة التي بُعث بها. الرسالة، بما تحمله من توجيهات إلهية، لا تقتصر على فترة حياة النبي، بل تمتد لتشمل استمرارية القيادة وتحديد من يتولى أمر الأمة من بعده، وهي إشارات كانت واضحة ضمن نسق الوحي والتوجيه النبوي.

في الغديرِ تجلّى النورُ وانفلَقَتْ    سُبُلُ الهدى، فتَبَيَّنَتْ معناهُ

نادى الرسولُ: وخاتمُ التنزيلِ في  كَفِّ اليقينِ، ومن يُبايِعْ مَولاهُ؟

فاستَودَعَ الحقُّ سرَّه في حيدرٍ  والكونُ أطرشُ عن نداءٍ ناجاهُ

————————————

  • حديث الغدير: ترشيح إلهي للحكم أم مجرد محبة؟

في هذا السياق، يبرز حديث الغدير كحجر الزاوية في فهم استمرارية الرسالة. إن الفهم الأعمق لهذا الحديث لا يذهب إلى مجرد إعلان محبة، بل يؤكد على أنه ترشيح إلهي للحكم، ونص صريح على الإمام علي (عليه السلام) بالاسم. فعبارة “فهذا علي” ليست مجرد إشارة عابرة، بل هي تحديد قاطع بالشخص، وقد تم تعزيز هذه الدلالة اللفظية من خلال فعل مادي قوي: مسك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد الإمام علي ورفعها أمام الجموع. هذه الدلالة المزدوجة، اللفظية والمادية، تجعل من الصعب اختزال الحديث في مجرد إعلان عن محبة أو مودّة شخصية.

في تلك الحقبة، كان المجتمع الإسلامي حديث عهد بالتحول من الجاهلية إلى الإسلام. كانت مستويات الإيمان متباينة بشكل كبير:

 * هناك من اعتنق الدين الجديد عن قناعة عميقة وفهم دقيق لتعاليمه.

 * وهناك من انتمى للإسلام تبعًا لرأي رئيس قبيلته، أو بحكم الأمر الواقع الذي فرضته القوة الإسلامية الصاعدة.

 * فئة أخرى دخلت الإسلام طمعًا في المغانم الدنيوية والامتيازات التي يوفرها الانضمام إلى الكيان الجديد.

هذا التباين يؤكد أن آثار الجاهلية، مثل التعصب للقبيلة الذي يتناقض مع جوهر الدين التوحيدي الذي يدعو إلى التوحيدية الإنسانية، لم تكن قد زالت تمامًا. لم يكن من المعقول أن يكون الناس على درجة واحدة من الإيمان العميق والإدراك الكامل للمبادئ الإسلامية. في تلك المرحلة، لم يكن المطلوب بالضرورة هو الإيمان القلبي الكامل من الجميع، بل كانت الحاجة ماسة إلى الناحية العددية لتحقيق الأهداف المرحلية للرسالة الإلهية، وهي: بث فكر التوحيد في الجزيرة العربية وما ورائها، وهدم الإمبراطوريات الظالمة التي كانت تتحكم في العالم.

المطلوب من المنتمين الجدد كان الإقرار الظاهري بالشهادتين “لا إله إلا الله ومحمد رسول الله”، ليتحقق عنوان المسلم. أما القلوب، فكان أمرها موكلًا إلى الله. هذا الواقع الاجتماعي والسياسي المعقد يبرز ضرورة وجود قيادة واضحة ومحددة بعد الرسول لضمان استمرارية الرسالة، وتجاوز آثار الجاهلية، وتحقيق الأهداف الكبرى للدين.

يا مَن تركتَ الخلقَ خلفَ محبّةٍ  وسلكتَ دربَ العاشقينَ بلا ظُنونِ

خُذها عهودَ العِشقِ بيعةَ عاشقٍ  ما بينَ روحي والوصيِّ مدى القرونِ

  • استمرارية الرسالة: دور “الولي” ومفهوم القيادة الربانية

إنّ إقامة الإسلام كدين عالمي ومجتمع موحد لم يكن ليتوقف عند حدود النبوة الخاتمة. فالرسالة الإلهية، بطبيعتها الشمولية والخلود، تستلزم آلية للاستمرارية تضمن بقاءها وتطورها عبر الأزمان. على الرغم من أن المطلوب الأساسي من المنتمين الجدد إلى الإسلام هو النطق بالشهادتين “لا إله إلا الله ومحمد رسول الله” كحد أدنى لتحقق عنوان المسلم الظاهري، فإن الإيمان القلبي الحقيقي يبقى مرهونًا بعلم الله وحده. لكن هذا الإقرار اللساني لا يكفي لضمان استمرارية رسالة التوحيد وتوحيد الأمة، خاصةً في مجتمع حديث العهد بالإسلام، تتجاذبه ولاءات قبلية ومصالح دنيوية.

هنا يبرز الدور المحوري لمفهوم “الولي” كضامن لهذه الاستمرارية. فالتساؤل الجوهري يكمن في: من هو القادر على تحقيق استمرارية هذه الرسالة وتوحيد الأمة بعد انتقال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ الإجابة، وفقًا لهذا الفهم، تكمن في شخصية الإمام علي (عليه السلام).

إنّ قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حادثة الغدير: “فهذا علي” ليس مجرد إشارة عابرة أو تفضيل شخصي، بل هو رؤية مستقبلية عميقة من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لمآلات الأمة ومستقبل الرسالة. هذه الرؤية، غالبًا ما تكون مُلهَمة بتدخل السماء والوحي الإلهي، تُشير إلى تعيينٍ لا مجرد اقتراح. إنّ سيرة الإمام علي (عليه السلام) منذ نعومة أظافره، وتلقيه التربية المباشرة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومرافقته له في أصعب الظروف، تشهد على تهيئة وتدريب إلهي ونبوي لهذه المهمة الجسيمة. لم يكن الإمام علي (عليه السلام) مجرد تابع، بل كان تلميذًا متفوقًا، ورفيق درب مُلهم، تم إعداده بوعي واختيار لتلقي عبء القيادة بعد النبي، ولضمان أن مسيرة الرسالة لن تنقطع بوفاة حاملها الأول.

  • إشارات قرآنية ونبوية: ضرورة “الولي” لاستدامة الرسالة

تتجاوز مهمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مجرد إيصال الوحي الإلهي إلى الناس في فترة حياته. فالرسالة، بطبيعتها الخالدة والشاملة، تستلزم استمراريتها بعد رحيل النبي. إنّ القرآن الكريم والسنة النبوية يزخران بإشارات ودلالات عميقة تؤكد هذه الحقيقة، وتُشير إلى ضرورة وجود “ولي” يواصل حمل أعباء الرسالة.

الآيات القرآنية، وإن جاءت في سياقات مختلفة، تُسهم في بناء هذا المفهوم. فقوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169)، لا يقتصر على تكريم الشهداء، بل يُلمح إلى استمرارية الفاعلية والتأثير حتى بعد الموت الجسدي. وهذا المبدأ، وإن كان يتعلق بالشهداء، فإنه يُمكن أن يُسقط على استمرارية الرسالة من خلال ورثة النبوة.

أما في السنة النبوية، فتأتي أحاديث صريحة لتوضح هذا المعيار، كقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي (عليه السلام): “أنت مني بمنزلة هارون من موسى” (صحيح البخاري، حديث 4416؛ صحيح مسلم، حديث 2404). هذه المنزلة، التي تتجاوز مجرد القرب العائلي، تُشير إلى وظيفة قيادية ودعمية كبرى، وهي المنزلة التي كان يتمتع بها هارون لأخيه موسى في قيادة بني إسرائيل، باستثناء النبوة بعد النبي الخاتم. هذه الإشارات والدلالات اللفظية والبيّنة لا يُمكن إنكارها إلا بجحود للحقائق التاريخية والنصية.

إنّ تاريخ الرسل، كما يُصوره القرآن الكريم، ليس تاريخًا ينتهي بموت النبي. بل هو سلسلة متصلة من القيادات التي تضمن استمرار الدعوة وحفظ الشريعة. فبالرغم من أن النبي يموت جسدًا، إلا أن رسالته تحتاج إلى رجل آخر، أو سلسلة من الرجال، يواصلون حمل الفكرة والدعوة، ويبلغون رسالة الله إلى الأجيال اللاحقة. فكما أن وراثة الأنبياء ليست وراثة مال أو نسب بالضرورة، بل هي وراثة علم وحكمة وقيادة، فإن وراثة يعقوب كانت لآل يعقوب في حفظ الدين والشريعة.

إنّ إكمال الدين لا يعني مجرد اكتمال النصوص، بل يعني إكمال الرسالة في تطبيقاتها وواقعها، دون نقص أو تحريف. وهذا الإكمال الجوهري يستلزم الاستمرارية القيادية التي تضمن تطبيق المبادئ الإلهية في حياة الناس، وتوجيههم نحو الصراط المستقيم. ففي عالم مليء بالتحديات والصراعات، وانشغال كثير من الناس بالمال والنساء والمغانم والتفاهات، تبرز الحاجة الماسة إلى وجود “ولي” يتولى قيادة الأمة وفق هدي الرسالة.

  • صراع السقيفة ومقتل الحسين: تداعيات رفض الولاية الإلهية

في خضم انشغال البعض بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بمتع الحياة وزينتها، من المال والنساء والمغانم الدنيوية، والانغماس في صراعات هامشية على توافه الأمور وصغائرها، كانت الأمة الإسلامية على مفترق طرق حاسم. في هذه اللحظة الحرجة، كانت الحاجة ماسة إلى قيادة حكيمة وربانية، رجل قد هيّأه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إعدادًا خاصًا لهذه المهمة الشاقة. هذا الرجل، الذي وصف بـ”تلميذ السماء وابن القرآن”، هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).

لقد بدأت إرهاصات ترشيح الإمام علي (عليه السلام) وتأصيل ولايته منذ اللحظات الأولى للدعوة الإسلامية، وتحديدًا منذ حادثة الدار (دعوة بني هاشم إلى الإسلام). كانت تلك الحادثة بمثابة إعلان مبكر وغير مباشر عن مكانة علي ودوره المستقبلي في قيادة الأمة. إلا أن “للقوم رأيًا آخر”، رأيًا وصفه أحد أبرز رجالهم (عمر بن الخطاب) بـ”فلتة” لم تُقَ شرها. هذا التعبير يشير إلى حدث عاجل، غير مُخطط له بدقة، حدث بشكل مفاجئ، ويحمل في طياته إقرارًا بعدم اتساقه مع المسار النبوي.

لكن المتمعّن في النصوص الدينية يجد أن إرادة الله ومشيئته كانت قد قضت بأن يكون الإمام علي (عليه السلام) هو الولي، بنص صريح من قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي “وما ينطق عن الهوى”. هذه الإرادة الإلهية والنبويّة كانت تتعارض مع ما حدث بعد وفاة الرسول.

إن تداعيات ما جرى بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تقتصر على تلك الحقبة فحسب، بل امتدت لتُلقي بظلالها عبر التاريخ والجغرافيا. كان اجتماع السقيفة هو الشرارة التي أشعلت هذا الانحراف عن المسار النبوي. لم يكن هذا الاجتماع مجرد خلاف على السلطة، بل كان نقطة تحول أدت إلى نتائج كارثية، بلغت ذروتها المأساوية في مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء.

إن العلاقة بين حدث السقيفة ومقتل الحسين ليست مجرد صدفة تاريخية، بل هي سلسلة متصلة من الأحداث والنتائج. فلولا ما حدث في السقيفة من تغيير لمسار الولاية الشرعية، لما نشأت الظروف التي أدت إلى استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وذريته في تلك الفاجعة الأليمة. هذا أشبه بـ”كرة الثلج” التي تبدأ صغيرة ثم تتضخم، أو “تأثير الفراشة” الذي يُحدث فيه حدث صغير تداعيات عظيمة غير متوقعة. هذه الأحداث، بما حملته من تغيير في مسار الأمة، أدت إلى حكم من لا يستحق، وما تبعه من استبداد وظلم وتغيير للشرع والمنهاج، وسرقة للموارد، وسبي للنساء، وكلها تداعيات تنبع من قرار اتخذه البعض بعيدًا عن وصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوجيهاته.

———————————-

  • إمامة علي: رؤية تاريخية تتجاوز التقسيمات الطائفية

إنّ ما شهده التاريخ الإسلامي من تحولات جذرية بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أفضى إلى واقع مرير، حيث حَكَمَ من لا يستحق رقاب الناس، وأسس لأنظمة حكم أقامت “شرعة ومنهاجًا” خاصًا بها، بعيدًا عن الروح الحقيقية للإسلام النبوي. هذه الأنظمة عمدت إلى سرقة الموارد، وسبي النساء، وانتهاك الحرمات، وهو ما يُعدّ نتيجة مباشرة لاجتهادات فردية وقرارات سياسية اتخذها البعض بعيدًا عن وصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوجيهاته وأمره الصريح. هذه الأحداث ليست مجرد تفاصيل تاريخية عابرة، بل هي منبع لتراكمات أثرت في مسار الأمة إلى يومنا هذا.

من هنا، فإن الحديث عن ولاية الإمام علي (عليه السلام) لا ينبغي أن يُختزل في إطار الطائفية الضيقة. إنها ليست دعوة إلى الانحياز لفئة ضد أخرى، بل هي قراءة تاريخية معمقة يؤمن بها عدد كبير من المسلمين، وتستند إلى نصوص وسياقات تاريخية معتبرة. كيف يمكن لمفهوم الولاية المتعلق بشخصية كالإمام علي (عليه السلام) أن يُوصم بالطائفية، وهو الذي:

 * أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة؟ هذا التعبير البليغ يُشير إلى مكانته العظيمة وعدله، وأنه سيكون المدافع عن الحق والمظلومين في أشد المواقف رهبة، مما يجعله رمزًا للعدالة الإلهية، لا رمزًا لطائفة معينة.

 * إمام العالم وسر الأنبياء؟ هذا الوصف يُعلي من شأن الإمام علي (عليه السلام) ليتجاوز حدود الزمان والمكان، ويُبرز دوره الكوني كشخصية محورية في تاريخ الرسالات، وحامل لأسرار الأنبياء وحكمتهم. هذه المكانة الشامخة ترفض أي تصنيف ضيق يحد من عظمته وشمولية إمامته.

إن التأكيد على ولاية الإمام علي (عليه السلام) ليس محاولة لتعميق الانقسامات، بل هو سعي لإعادة فهم مسار التاريخ الإسلامي بناءً على ما يُعتقد أنه المسار الأصيل الذي أراده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). إنه دعوة للتفكير في كيف يمكن للقيادة العادلة، المتصلة بالوحي، أن تكون هي السبيل لتوحيد الأمة ونهضتها، بعيدًا عن المصالح الضيقة والاجتهادات التي أدت إلى الانحراف عن مقاصد الشريعة.

——————————–

  • إرث النبوة وولاية الإمامة: تجذير العقيدة في النص المؤسس

إن فهمنا العميق للعقيدة الإسلامية ينبثق من قراءة متأنية ومُتجددة لنصوص الإسلام المبكر. هذه النصوص، التي وصلت إلينا بأمانة عبر سلاسل روائية ومصادر متعددة، ليست مجرد سجلات تاريخية، بل هي الأساس الذي قامت عليه عقائدنا وتشكّل وعينا الديني. لقد قمنا بقراءة هذه النصوص بعمق، وعقلناها بتمعن، ووعيناها بصدق، وآمنا بها بيقين، انطلاقًا من إيمان راسخ بأنها صادرة عن أشرف الخلق، النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتُبين الحقائق المتعلقة بـثاني أشرف الخلق، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).

نحن، كأمة، لم نُخلق بمعزل عن الوحي، بل صنعنا النص في جوهر وجودنا، وخلق عقائدنا من نبع تعاليمه الصافية. هذا ليس مجرد انتماء عاطفي، بل هو ارتباط معرفي وتاريخي يجعل النص هو المرجع الأساسي في بناء التصور الكوني والديني.

ولذلك، فإن الدين الذي نتبناه ونعتقد به هو دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي أرسله الله هاديًا ونورًا، وهو أيضًا دين علي (عليه السلام) من بعده. هذا التلازم ليس ثانويًا، بل هو جوهري، فمنهما معًا نستمد معتقدنا ونتصور نظامنا الكوني. إنهما ليسا مجرد قائدين تاريخيين، بل هما أبوا هذه الأمة؛ الأب الروحي الذي أرسى قواعد الإيمان، والأب القيادي الذي اضطلع بمهمة الحفاظ على الرسالة وتطبيقها. وكما أن الأب هو الولي في أسمى معاني الرعاية والحماية والتوجيه، فإن ولاية الإمامة هنا تُصبح امتدادًا طبيعيًا ومكثفًا لدور النبوة، تُجسّد المُنزّل من السماء في القرآن الكريم، وتُجسّد المنطوق من قبل الرسول الأكرم في سنته الشريفة، لتُشكل معًا أساسًا لا يتزعزع للعقيدة الإسلامية الأصيلة.

———————————-

  • الإمام علي: محنة للتعقل

تتجاوز شخصية الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كونها مجرد شخصية تاريخية أو دينية، لتصبح بمثابة معيار حقيقي يُختبر به المتكلمون والدارسون على مر العصور. لقد أدرك الإمام الشافعي، وهو أحد أبرز أئمة الفقه الإسلامي، هذه الحقيقة بعمق حين قال: “علي بن أبي طالب محنة للمتكلم، إن وفى حقه غلا، وإن بخسه حقه أساء، والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن، حادة اللسان، صعبة الترقي إلا على الحاذق الذكي”.

هذا القول يوضح بجلاء التحدي الذي يواجهه من يتناول سيرة الإمام علي (عليه السلام) ومكانته:

 * “إن وفى حقه غلا”: يُشير هذا الجزء إلى خطورة المبالغة والغلو في تقدير الإمام علي (عليه السلام)، مما قد يُخرج المتكلم عن حدود الاعتدال الشرعي ويُدخله في محاذير عقدية. فالإفراط في الثناء والتعظيم قد يقود إلى جعله في مرتبة الألوهية أو ما يُقاربها، وهو ما يتنافى مع مبدأ التوحيد الذي هو أساس الإسلام.

 * “وإن بخسه حقه أساء”: على النقيض، فإن التقليل من شأن الإمام علي (عليه السلام)، أو إنكار فضائله الجمة، أو تجاهل مكانته الرفيعة في الإسلام، يُعد إساءة عظيمة. فهذه الإساءة لا تقتصر على شخصه الشريف، بل تمتد لتطال الحقيقة التاريخية والتوجيه النبوي، وقد تُفضي إلى إنكار ما ثبت بالنص الصريح والمتواتر.

 * “والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن، حادة اللسان، صعبة الترقي إلا على الحاذق الذكي”: هنا، يصف الشافعي المنهج الأمثل في تناول شخصية الإمام علي (عليه السلام) ومكانته. إنها منزلة الاعتدال والتوازن التي تتطلب فهمًا دقيقًا للنصوص، وبلاغة في التعبير، وذكاءً في استيعاب الأبعاد المتعددة لشخصيته. الوصول إلى هذه “المنزلة الوسطى” ليس بالأمر الهين، بل يتطلب بصيرة نافذة وقدرة على الموازنة بين النصوص والوقائع دون إفراط أو تفريط.

تأتي المقولة الأخرى التي تُعزى إلى بعض السلف لتعزز هذه الفكرة وتضعها في سياق الإيمان والكفر: “فإن أحببناه قتلنا، وإن أبغضناه كفرنا”. هذه العبارة، على الرغم من قسوتها الظاهرة، تُشير إلى أن العلاقة بالإمام علي (عليه السلام) ليست مجرد تفضيل شخصي أو موقف تاريخي، بل هي جزء لا يتجزأ من ميزان الإيمان.

 * “فإن أحببناه قتلنا”: هنا يُشير إلى خطورة تحويل الحب إلى غلو وتطرف، كما حدث مع بعض الفرق التي تجاوزت الحد الشرعي في تعظيم الإمام علي (عليه السلام)، مما أدى إلى سفك الدماء وقتل من اختلف معهم في عقيدتهم.

 * “وإن أبغضناه كفرنا”: هذا الشطر يحمل دلالة أعمق؛ فبغض الإمام علي (عليه السلام) ليس مجرد كراهية لشخص، بل هو رفض لمكانة نص عليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنكار لفضائل عظيمة ثبتت في القرآن والسنة. هذا الرفض قد يُفضي إلى حالة من الكفر لأنها تعني رفضًا لبعض ما جاء به الرسول.

تُقدم هاتان المقولتان رؤية عميقة لكيفية تعامل المسلمين مع شخصية الإمام علي (عليه السلام). إنها ليست مجرد محبة عابرة أو موقف سياسي، بل هي ميزان للإيمان والاعتدال، يتطلب من المتكلم والمسلم على حد سواء فهمًا دقيقًا، وتوازنًا في القول والفعل، وتجنبًا للغلو والجحود. إن الإمام علي (عليه السلام) يبقى، بتعبير الشافعي، “محنة” تُظهر مدى عمق الفهم والإيمان لدى من يتناول سيرته ومكانته.

 

عاجل !!