سمية الشيباني ونصف رواء انفاسها/  قراءة / اسماعيل ابراهيم عبد

هيئة التحرير18 نوفمبر 2025آخر تحديث :
سمية الشيباني ونصف رواء انفاسها/  قراءة / اسماعيل ابراهيم عبد

سمية الشيباني تضع لنفسها يوتوبيا لا يدخلها إلّا نوعان من البشر , هم قُرّاء النفس البشرية , ومن يؤمنوا بعودة الموتى لفلاحة الأرض من جديد بمستقبل (روحي/ حقيقي) .

إني اظن بأن فلسفتها الشخصية تدور حول هذا الفرض الذي تتضمنه آخر صفحة (ص300) من رواية نصف للقذيفة .. لنتأمله بحيادية :

[ينهض آدم ويمسك بيدي ويصعد بي الى السماء , أميل عليه بدلال وأسأله : هل خلف المتاريس حياة ؟ يبتسم آدم كالضوء ويقول : نعم سيصنعون المستقبل .. وسيغادر الخوف..

لا انظر خلفي , يدي تحتضن يد آدم والصغار من حولنا حفاة , يقودنا ضوء أجسادهم الطيبة ويلتفتون إلي ويغنون : لن نمضي من دونكِ يا مريم , نحنُ نحبكِ …..

أسأل الله : من أية بوابة ندخل ؟ بابتسامة خانقة أرسم مثل الانبياء طُرقي وأمضي …..

 

                                     لـــــم تــــنــــتـــهِ                                     ]     

تقصد لن تنتهِ رواية الوجع العراقي ..

لنتابع رواية نصف للقذيفة بحسب المناول الآتية :

 

 

أولاً : يوتوبيا الشخصنة

ان البيئة الأولية التي تحيط بالشخصية تكشف حال الشعور الصانع لمزاج الشخصية.             هذا المزاج ـ في الصناعة الروائية ـ تترتب عليه الأفعال التي تقوم بها الشخصية , أو التي تنوي القيام بها , والوقائع التي تحدث لها . ثم ان هذا المزاج نفسه ينزاح عن بواعث سابقة عليه .. لننظر :

[أجلس الى جانب أخي , أدفن وجهي بما تبقى من جسده , لأشم رائحة أبي في أنفاسه , أتبع ضوء سيجارته , وربما أستطيع أن أتبع عينيه الغارقتين بالدمع , أتبع صوت نشيجه المكابر وأنفاسه الحارقة وأفكاره المتضاربة , أعرف تماما بماذا يفكر الآن , أعرف جيداً انه يشعر بالضعف ولن يكون الرجل الذي تحتاجه الاسرة , ماذا يفعل لأخته الصغيرة وأُمه المريضة وهو بنصف جسد ؟ يشعر أنه بقايا رَجل قدّم نصفَ جسده وليمةً للموت ولم يشبعْ ـ الموتُ ـ منه , أتحسس طرف السرير ثم أطراف أصابع كفه وأهمس :

ـ ابراهيم ؟

يرفع يده يلتقط رأسي , يشد جسدي ويعصرني في قلبه المرتجف , أرتمي بكل ما بي من ألم وحزن وأجهش بالبكاء , يضمني بين ذراعيه ويجهش بصمت , ألتصق به أكثر وأتنفس بعمق أشم رائحة أبي]([1]).

ان من مظاهر الانزياح المزاجي للشخصية انه يشغل بيئة الوجدان المركب , كأنه هو بيئة مُوَحِّدَة للفعل والشعور , المقطع السابق يبين ذلك بوضوح , إذ هو :

ـ يصنع بيئة روي من الأخ المعوق ورائحة الأب , فضلاً عن موضوعة الموت والضعف المستديم ـ نصف جسد ـ الذي يمثله ابراهيم.

ـ المزاج الانفعالي والشعور الشديد بالألم يضخم الأذى ويجعل الحِس بالحاجة الإنسانية للمشاركة الوجدانية ذاتَ أبعاد اجتماعية عميقة التأثير والتأثر .

ـ عمق الاحساس بالأذى عبر العوق والضعف يدفع نحو التهجيس السياسي .                                  ـ الأفعال التي قام بها الأخ , على صغرها , أججت عاطفة الأُمومة والابوة عند البطلة , ومزاج البطلة جعلها تضم الأخ كأنه زوج وأب واُم وأخوات , أي انه رائحة الحنين في مجتمع مؤاخاة حميمية العلائق والعواطف.

ـ تتصنع الشخصيتين بمزاج خاص يقترب من اليوتوبيا بدليل ان الرابط الآسر هو الرائحة, وما يفيض عنها من تصورات.

ثانياً : سياسة الروي 

قد يُفاد الأدب في سياسة او خطط العمل من (تقنيات التواصل) في تسويغ وتسويق الأفكار لأغراض متعددة , ولكننا نريد ان نجعل من الروي سياسة لتنفيذ تقنيات مستحدثة في رواية (نصف للقذيفة) للكاتبة سمية الشيباني :

[ـ دخلت غرفة ادريس ـ صار ادريس نصرانياً وبوذياً ومسلما , بل وكل معتقدات الأرض… كأن ادريس عثر على (إيماناته وانتماءاته) , ولم يكن بحاجة لمواعظ وتفسيرات تزيد من حزنه , اكتشف السر فوضع العلامات كلها أمامه , وغمر روحه في معناها , عثر على كهف التأمل وشجرة الخير وجبل الامنيات وسفح النذور وصحراء التوسل وسماء التضرع في آن واحد .

خرجتُ وانا اشعر انه يريد ان يقول :

” ليا كانت تعيش هنا ” أو انه أسس عالمه الخاص والدافئ حيث تنبعث رائحة الصندل وشاي اليانسون . شعرت بالذنب لتلصصي على معبده , هكذا أصبحت أُسميه , وتخيلتُ إدريس يباغتني بقامته الطويلة وبنيته القوية ووجهه الحاد بسحنته الداكنة وثوبه الأبيض وعمامته الملفوفة كحبة يقطين على رأسه , يمد ذراعه القوية ويلتقطني من ياقة ثوبي ويرفعني     كالفأرة , يقربني من أنفه ويشم رائحتي ليتأكد أنني لست جنية فيرميني دون اكتراث]([2] )

ترسم الروائية سمية الشيباني خطة عملها بوضع (سياسة استباقية مهدية) للروي , تسند لها خمس طبقات من الفعل هي :

ـ خطة التنوير عبر وضع مفاهيم المعتقدات في لحظة امتحان غاية في التصديق والتكذيب كونها معتقدات مذابة في ذات وفعل ادريس .

ـ خطة امتحان المعرفة فهو عثر على علامات السر الروحي دون مواعظ  , أي دون مدارس ممنهجة , ولا صالات تلامذة , ولا مبادئ وصايات تخص الانتماء والايمان.

ـ خطة فهم المعنى , وهي خطة تعنى بالمطلق من المعنى الذي يلغي المعنى ويبقي الأثر.               ـ خطة ربط السر ببيئة (الكهف , والشجرة , والجبل , والسفح , والصحراء , والسماء) , وألبسها قيم المعرفة الأعلى من المعنى لتقفو اثر جمال الروح عبر (التأمل والخير والامنيات والنذور والتوسل والتضرع).

ـ خطة الروي الذي يقوم على ركيزة الراوي البطل , فالبطلة (دخلت وفكرت وخرجت) , لكن نتيجة الروي ان الخطة نجحت بفعل عامل الغياب , وذُيلت الخطة بتخيل حدثي ـ هو      (ان كان المدعو ادريس حاضراً سيلتقط المتلصصة ويرميها كالفأرة).

* يؤكد الروي ـ بتراكم الجمل الواصفة للحركة والحالة النفسية ـ على أن التخطيط تم بمعرفة كاملة التنسيق لما سبق وما أتى من سياقات على مستوى اللغة والحدث , فليس من المعقول ان تكون الخطة مدركة لشكل ومضمون وطبيعة ادريس و” ليا ” , بهذه الدقة , دون تسجيل وتخييل وصناعة مكتوبة لما كان وسيكون عليه ادريس و” ليا ” , بل لعل الرائحة التي صيّرت مزاج الشخصية هي الجزء الأصغر من خطة (سياسة) الروي لتجيء الرسمة الجديدة في المقطع أعلاه.

* يؤكد الروي على تبني تقنيات محسوبة تخص العلاقة بين المسميات والأفعال التي رسمت سمو الهدف للمعنى واللا معنى أيضاً .

* وقد يفوضنا فهمنا للمقطع الى واحدة من تقنيات العصر الروائي , تلك هي تدرج مستويات واحداث الروي مثلما سلسلناها آنفاً , وهي أدت الى تفعيل طاقة الغموض والغرابة , وتوطين الذي لا يصدق (صورة المرأة الفأرة ـ مثالاً).

ثالثاً : مؤثثات التبدل

يتحول الحيز الروائي الى أُرث مشبع بقوى السرد عند التثبت من عنوان المتغير فيه بحسب مرور الزمن :

[رحل المعزون ـ بأبي ـ آخر النهار … ثم مروا من نفس الباب الذي دخله أبي بالأمس على قدميه وخرج منه محمولاً , كم مرة سيمر أهل هذا البيت محمولين الى الرحلة الأبدية , وكم على هذ الباب ان يتحمل ولا يجزع لا يصرخ لا يتكسر , لا ينحني ولا يبكي ولا يقرر يوما ان يتخلى عن دوره ويترك الأمر للشباك أو للسقف أو لأي فتحة اخرى في البيت , كي لا يشعر بالذنب؟ بابنا الحزين هل يبكي معي الآن؟

مسكين باب بيتنا لم يدخله الفرح منذ سنوات , صار للباب قلب كسير وجفنان ذابلان .                       أرض منزلنا هي الاخرى باردة كأنها ماتت!

أخطو عليها وقد جردت من الحياة مرة بعد مرة … كأن الأقدار صبتْ عليها مطر الموت لتسرق منها الأصوات والوجوه..

أقتربُ من غرفة أخي , أقف خلف الباب المغلق , خلف الصمت … ورائحة دخان السجائر… معلنة احتراق الروح  …أتخيل أن عاصفة من الحزن ستهاجمني وتقتلعني حتى آخر بوابات الهلاك] ـ نصف للقذيفة , ص80.

سبعة تحولات بسبعة شواخص يؤلفون العناصر المؤثثة للروي في المقطع السابق.       الشواخص هم : (المعزون , الأب , النهار , الباب , الارض , غرفة الاخ , السجائر)                     اما التحولات فهي من صنع ذهن واحد يخص (الراوية = الروائية = البطلة).                               يتم التأثيث بترابط العلائق المادية بين الشخوص وأفعال التحولات , على النحو الآتي :                     1 ـ يبدأ المعزون ـ الفعل الأصل .

2 ـ التبدل الأول : يبدأ في تشكل صورة مرور المعزين من ذات الباب الذي كان يمر منه الأب في حياته وها هو يرحل من خلاله الى سماء العلا القدرية في مماته.                                         3 ـ التبدل الثاني : يحدث بتعويض الفعل والشعور الإنساني الى الباب الذي عليه ان يتحمل ولا يجزع ولا يصرخ ولا يتكسر .

4 ـ التبدل الثالث : يحدث عند مناشدة الباب بألّا ينحني ولا يبكي ولا يبدل وظيفته الحزينة بإعطائها الى فتحات البيت الأُخرى.

5 ـ التبدل الرابع : هو الأشمل من تلك السابقات , فهو الباب الذي تشفق عليه صاحبة الأسى ـ البطلة ـ لكونه باباً كسيراً لم يتعرف الى الفرح يوماً.

6 ـ التبدل الخامس : مفاجأة جديدة فهو تبدل يحدث لجميع العناصر , إذ تستعيض عن نفسها ببديل جهة واحدة هي أرض المنزل التي بردت وماتت , كأنها جسد الراوية.                               7 ـ التبدل السادس : يحدث بتبدل ارض المنزل بغرفة الاخ , كونها الملجأ الأحن في الموجودات العائدة المتبقية من الاسرة .

8 ـ التبدل السابع : يختتم دائرة التحولات بالرجوع الى أصل الفواعل كلها , عاصفة الحزن التي تقتلع كل شيء , الغرفة والأرض والباب , تؤلف بهم باب الهلاك.

رابعا : مخلوقات الكائن المُعرى

الكائن السوي مُعرى من أغلفة الزيف والكذب , يتوجب على رعاة الأمر ان يجعلوه يعيش فطرة وجوده بفرح الخلق وحقيقة نعمة الجسد والحركة , فضلاً عن حيوية أنسجة الجسم والعقل , ترى هل ثمة أمل بتحقق هذا , وما أهمية هذا الكائن في رواية؟

كنّا بحصار , الواحد منا ممنوع :

[ممنوع من العمل والتذكر , ممنوع من التنفس والكلام , ممنوع من الغناء والأحلام , ممنوع أن يسافر حتى ولو عبر الهواء , ممنوع يموت وممنوع يعيش وممنوع ينام وممنوع يستيقظ…

لقد عشتُ الممنوعات كلها وسوف لن أسمح ان يُزايد أحدٌ على جرح ممنوعاتي , فقد مُنِعْتُ يوماً من الخروج من منزلي ومنعت من البكاء , والعالم يتفرج علي وأنا أكتم صوت الأغاني الجميلة كي لا ترتفع فوق صوات الأهازيج والردح الرخيص في الشوارع , شعب مسعور خلف اسم مسحور خلف جسد محموم يرتوي بدمي وبدم أبي وأخي وأُمي وأُختي وصديقتي وحبيبي وجاري , لن أُسامح العالم على تغييبي وتغييب شبابي ودفن أحلامي , ولن أقبل الاعتذار .. لقد امتد الألم طوال سنوات , يحرق وجودي ويرمي بي الى شعور خفي بأنني لستُ من هنا , ولكنني مع الوقت اصبحت لست من أي مكان]([3]).

يمكننا ان نوجه العناية الى ظرف هذا المقال , انه يتحدث عن سلطة البلاد في عام 1996, في ذلك الظرف كانت البلاد تحت الحصار الداخلي والخارجي والاجتماعي , يوصف ذلك التاريخ بأعنف حالات هيستريا القتل والتعذيب والتغييب , وتصفية أي فرد يشك في ولائه , يعدم الفرد على الوشاية وحتى على المزاج .. هذا في الداخل , اما في الخارج فكان العالم يتفرج على الموت الجماعي للأطفال .

إذاً الكائن المُعرى هو بلد بما فيه وما له من بشر وتاريخ وحضارة وطموح شعب , فلقد صار الانسان اقل مرتبة من الرخويات! :

1 ـ ان الفرد ممنوع عليه أي شيء لا يمجد (القائد) .

2 ـ لا يجوز ان يحلم بالسفر مطلقاً.

3 ـ كل من يعدم سيشمل عائلته الرفض والأذى حتى الدرجة الرابعة .

4 ـ الشهيد والمتخاذل والمعارض لهم حق واحد هو الموت .

5 ـ الاحتفال بالنصر المزعوم على ايران عام 1988 , والانتصار على الحصار عام 1996 , وما رافقهما من غناء في الشوارع والصالات والفنادق , كان بوسائل الرقص والغناء الرخيص .

6 ـ لم يراعِ المحتفلون حرمةَ الشهداء والمعوقين والأُمهات الثكالى في حومة الاحتفالات بالانتصارات الكاذبة . المحتفلون أشبه بالعراة السذج الذين يحمدون زناتهم .

7 ـ ترى الروائية الراوية ان حروب البلد كلها جرائمَ بحق الإنسان العراقي , والراوية تنفل صورة عارية , كاملة الوضوح لتلك الحروب العارية من كل خلق وجمال.

8 ـ الكائن الوحيد الذي يستحق ان يراعى هو المستقبل الذي لحقه الحيف حتى لحظة كتابة الرواية كون المستقبل هو الكائن المُعرى أزلياً , فلم يكسيه أحدٌ ملابس الزمن القادم .

9 ـ يتحمل العالم خطيئة سلطة العراق بتبنيه لمشرعات بقائها حتى 2003, وتمكينها من صناعة قوة الزيف القامعة .

10 ـ الروائية ـ بموقف فكري ـ تُحَمّل العالمَ مسؤوليةَ استمرار ظروف الحروب على البلد الجريح بحكامه وثروته وعلاقاته الخارجية.

خامساً : مرئية الصوت

الصوت والسماع محركات أساسية لفهم وابصار الفعل بين طرفين انسانيين , سواء تم هذا بسماع صوت عن تدوين , أم بسماع صوت عن مشافهة , ويأخذ بالحدث كمرئي شكلاً , فيسهم بتنغيم صورة المحكي , وترتيب السماع على أساس نموذج الصوت , فيتنامى فعل الصوت كحال لتخيل الحيز الفضائي للمروية.

إذاً تتشكل للصوت قاعدة عريضة من بيانات الترابط , ملخصها العلاقات الآتية :

أ ـ الصوت يصنع صورة للفهم

[فنجان القهوة لا يزال بين يدي يمدني بدفء وهمي في صباح لندني بارد وماطر وغريب , اتنقل من شباك غرفة النوم الى شباك المطبخ الصغير ذارعة المسافة , وكأنني أتوهم انها ضاقت عما كانت عليه بالأمس . لدي أمل ان ارَ ملامح حياة في شارع لا تُقلق غفوته سوى بقايا حبات مطر من أسقف المنازل … أغمض عيني وأرفع رأسي كمتعبدة تتلو الدعاء أمام سطوة الشمس: ” احرقيني أيتها الشمس , ذوبي جليد الصمت والوحشة والغربة”]([4])

ان منطق الصوت المتحدث مع ذاته عبر فلاش باك التذكر يوحي بالفهم الآتي :

1 ـ الراحة والطمأنينة يمثلان صوت الرخاء الآمن المسالم شبه السعيد في مكان جاذب , حبيب , فالقهوة والدفء والصباح البارد المطير المدهش , كلها مكملات لصوت الذات التي تحكي عن ظرفها المتضامن مع جو الرخاء اللندني.

2 ـ الدفء الصباحي يبدو انه موهم كونه صير الغرفة ضيقة والمسافة بين شباك الغرفة والمطبخ غير آمنة لسبب نفسي يخص طاقة صوت تذكر الماضي.

3 ـ  الأمل المادي بوجود شارع لا يثير القلق قد تحقق لكن المرأة لا تعطل قلقها بإزاء غياب الشمس , ففي بلادها  تتطهر الأنفس والموجودات بالشمس كمعقم أثير للناس.

4 ـ لندن الباردة لا تجعل المكان بديلا عن اماكن البلاد الحبيبة .

5 ـ الأماكن كلها طاردة , ومهما كان  رخاؤها فهو لن يذيب جليد الغربة .                                            * الصوت إذاً وضع لنا حدثاً كبيراً هو انتقال المرأة من غربة الوطن الى غربة الجليد .

ب ـ الصوت يؤلف مرئية للمنظور

[باتت حكايتي من الحكايات التي تتداول في المقاهي بين الأصدقاء وفي السهرات بين الأهل حيث يتحدثون عن مريم العراقية التي رافقت آدم النائم في رحلة لا أمل فيها سوى الانتظار, مريم زوجة آدم الذي لم يقترب منها ولم تزل زوجة عذراء..

بعد شهرين من عودته واعتياده على حياته الجديدة … كان ينظر الى يدي مأخوذا بها وهي تتحرك , تقوم بفعل السحر والخلق , يقترب مني كطفل يحاول اكتشاف ملامحي وتضاريس جسدي … اقتربتُ منه … أرفع وجهي الى عينيه التي كانت تتفحص جسدي المهيأ لليلة حب أولى .. وضعتُ رأسي على ساقيه فامتدت يديه الى جسدي ورفعني الى أحضانه … قادني لغرفة نومنا الدافئة … كنت كحلم بين ذراعيه … ليلة آمنة أعيشها مع آدم … تصفع كل الأبواب التي خفتها وأرعبتني … اليوم يشتعل بجسده المتوثب على جسدي . جسده يحتوي أطرافي ويلثمها قطرة قطرة] ـ نصف للقذيفة , ص254 , ص255 , ص256.

الصوت المقصود هنا هو صوت الراوية (مريم) الذي ينقل الحكاية برؤية الشاهد الوحيد , وهو الشاهد المفوض بالحكي .. يرينا عبر الذاكرة غير المنظورة رؤية بصرية ورؤى عقلية (مقنعة فنيا) , فنصدق الحكاية .. وللمقطع الآتي (ارضية) حفزت على وجوده , تلك هي ان الراوية (مريم) أحبت فتى انكليزياً من أَصل عراقي , عاد الى العراق قبل حادث العامرية بعدة شهور , من ثم أُصيب وهو ينقذ جرحى ملجأ العامرية , ثم صحبته خطيبته ـ المعقود عليها ـ الى لندن لغرض العلاج , وللهرب من مضايقات السلطة واجرامها , إذ أَرادها رجالُ الأمن ان تتجسس على خطيبها العراقي الانكليزي مقابل ألّا يعتدوا على شرفها , وهم بذلك يريدون الانتقام منه لكون والده كان من المعارضين الذين هاجروا للتخلص من السجن او الاعدام , اما الارضية الثانية هي اسماهما , فمريم النبية عذراء , ومريم العراقية ماتزال عذراء عند تدوين الحكاية , وآدم نبي وابو الانبياء كلهم , وكذلك آدام اللندني افضل الرجال مظهرا وجوهرا , بينما الارضية الثالثة هي ان الراوية تمزج بين رواية (حديث الضمير الى نفسه) , و(رؤية القيم الاجتماعية المتخالفة بين شعبين) , (الانكليز والعراقيين).

اما الجانب المتعلق بمرئيات صوت الراوية فهو يتناول وجهي التداول  , الحكائي العام في المقاهي وبين الأصدقاء , ووجهة الرؤية الى حميمة التضحية وفطرية الجسد , وشبابية التشبب السامي , ونتائجها على المستوى الفردي لآدم وحواء كما لو كانا وحدهما على الارض … ما نريد تأشيره هو /

1 ـ ان الانتظار صورة ذهنية معنوية , اظهرتها الرؤية المعنوية كأنها رؤية بصرية.                 2 ـ ان الصبر والحب يقدران على احياء الموتى مثلما قام به المسيح (ع).                         3 ـ ان الود الجسدي هو مظهر للعفة والحنان , وهو اسمى من أية لغة او انفعالات غير محسوبة , ليس لها حصة من الوفاء .

4 ـ من الجانب الفني , اقنعتنا الكاتبة بأن الصدق يبرر عُري الجمال , ويرفع العيب عن السلوك الجنسي المسكوت عنه .

5 ـ ان اللغة لها قوة المتعة الجنسية التي تهذب الذوق دون زيف او خدش للحياء.

ج ـ الصوت يُظْهِر حدثاً ملموساً

الراوية التي تستذكر رؤى شبه صوفية , تنقل عبر تذكرها تجربة حسية كان سببها غير حسي , وبهذا يتصير صوت لغة الراوية حدثاً لواقعة ملموسة على الرغم من انه مجرد حالة شعورية لا غير , سأكتفي بالمقطع الآتي لتوضيح الأمر:[ذات يوم …  ـ راحت ” ليا ” زوجة ادريس السوداني ـ تغمس كفها الدافئة بمزيج الدلكا وتدهنها على جسدي بهدوء… بدأت ” ليا ” تفرك … بنعومة بدءاً من كتفي حتى مرّتْ بظهري وأسفل جسدي ثم ساقي , دوختني رائحة الداكا وانبعثت من جسدي آلاف الأحاسيس, وارتعشتُ ملايين المرات وتخدرتُ حتى غبتُ عن الوعي , ثم طلبتْ مني ان أستلقي على ظهري ,وراحتْ تعيد ما فعلته مرة اخرى لأكتشف انني سافرتُ الى ذلك العالم…شعرتُ برأسي وهي تميل على كتفي كأنني أختبئ لأصبح غير مرئية..تصعد رائحة الدلكا الى مسمات رأسي لتثير بي كل شهوات الأُنثى الكامنة بداخلي, همست”ليا”: ترنحي على موسيقى روحك] ـ نصف للقذيفة, ص90, ص91.

د ـ الصوت ينظم التنغيم الحكائي

التنغيم السردي ـ بفهمنا ـ هو التشكل اللغوي / الدلالي , الذي ينسق لغة الافكار يضافر بينها فتخلق نوعاً من الشدو يشبه الغناء لكن بآلية روائية :

[التصقتُ به … صار خيط الحرير لا يمر بيننا , صارت الشعرة تتعثر كي تنفلت من بين جسدينا , غرز أصابعه في شعري وأمطر وجهي بالقبلات … شعرتُ بضلوعي لينة بين ذراعيه … خرجتْ روحي من مسام جسدي وتحولتْ لفراشات ملونة تعبث بالموسيقى ,                  كنتُ اريد ان نختفي في أي سماء أو أرض ليس فيها لغة , ما حاجتي للغة الآن؟…               خيل لي أنني غفوتُ] ـ نصف للقذيفة , ص226 , ص227.

* لعل المُنَغِّم يتجه نحو توحيد لغة الشدو عبر حركة الافعال (للماضي والحاضر) الحميمة , فهي تتدرج من الالتصاق الى الالتحام , الى غرز الأصابع في الشعر , الى التقبيل , الى تليين الضلوع , الى تحول الروح لفراشات ملونة , الى تحول الاجسام لموسيقى عبثية , ثم فقدان اللغة والاكتفاء بلغة الروح الجسدية السماوية.

* أرى ان الازل المدسوس في الحكاية يمحو عن الوجود كل شر , وأجد ان هذه الازلية المخلوقة هي الغرض الأهم من وجود التنغيم الصوتي كنظام للغة الخطاب الروائي .                  وهو ـ ربما ـ المهيمن الفكري المهم في الرواية كلها , لا هذا المقطع فقط.                                                    هـ ـ الصوت يزاوج فضاء الشخصية بفضاء المكان

قد يكون الصوت محركَ فهمٍ وابصار , ومظهرا لحدث مرئي , ثم يتشكل بأثره تنغيم حكائي يسهم بصنع فضاء للروي , ويشترط له الدكتور باسم حميد صالح تطابقاً بين الشخصية والمكان, إذ يقول: ” الانتاج السماعي يتميز بكونه يلتزم منظور الشخصية المكاني الذي يطابق بين الشخصية والمكان معاً ” ([5]).

[لو تسكنني روح أبي واكمل المشوار, هكذا أحمل روحه بجسدي لكنتُ شعرتُ بالدفء الآن وتخلصتُ من رعشة قدمي التي بالكاد تحملني … شعرتُ للحظة ان عين ابي ـ الميت ـ تحركتْ … كأنه ينظر إلي , هل تبقى النظرة حية في صورنا لحظة التقاطها؟ هل تخبئ الصور الكلمة التي كنا نفكر بها … عين أبي تريد ان تقول شيئا , تريد القفز الآن لتخرج الى جانبي] ـ نصف للقذيفة , ص78.

سادساً : الاستعارات الكمية

نرى ان المكان والحركة والسكون والزمن يصعّدون دراما وتائر السرد , ويسهمون بصنع الاستعارات القولية للعمل الروائي , ومن الممكن عدّ الاستعارات مكوناً أساسياً لقوى الوجود الحقيقي , أو الصور المتخيلة عن الوجود المادي , لذا وجدتُ مكونات الاستعارات الواصفة للأدوات والأسماء ومشعات الدلالة تمثل عمقاً للجذر الاجتماعي في العمل الروائي , بينما وجدتُ العلائق الاستعارية تؤلف كائنات روائية تمزج الواقعي مع المتخيل لصالح الصوغ القصصي الموهم والحدسي .

على وفق هذا التصور , يكون الكم الاستعاري متوافقا (طرديا) مع التعدد الدلالي الواقعي والحدسي.

[(… تخيلي أنكِ على موعدٍ مع الرجل الذي تنشدينْ , أمسكي بكفِهِ وسافري بعيداً عن هنا , لا تعودي الآن واستمري بالابتعاد , انسي تماماً ما أنتِ عليه واحلمي بما تريدين فقط , أصابعكِ ستلتقط النور هي الأُخرى , اقتربي أكثر سيدخل النور الى قلبك ستهدئين .. ستهدئين جداً , وستعرفين انك هناكَ ولستِ هنا . انتِ الآن تسمعين موسيقى قادمة من أعلى الشلال , دعي الأنغامَ تغسلكِ وتزيح عنكِ الهمومَ … أنتِ الآن أسفل الشلال , في وادٍ أخضر… اهدئي وأغمضي عينيكِ , استقبلي الماء والموسيقى …رأيتُ نفسي اغادر … الغرفة … اغرق العالم عطرا… اميرة اغتسلت بخلطة الحناء وماء الورد …”خدرتني كلمات ليا … حتى انني …. “لا اريد ان استيقظ أبدا”)]([6]). ان عناصر الاستعارة موزعة على النحو الآتي :

1 ـ المكان والحركة والسكون هي اركان الاستعارات كلها , وهي الصائغة للاستعارة , ومؤلفة لعناصرها , فالمكان غرفة . والحركة تتشكل من تخيل الانتقال الى مكان الرجل الحبيب المشتهى والإمساك بيده . السكون هو الخدر الذي يسفر عن الاحساس بالسفر والابتعاد والحلم .

2 ـ ان عدد الاستعارات من الأفعال يمكن احصاءها والتوصل الى انها (25) استعارة فعلية.

3 ـ وان عدد الاستعارات المتشكلة من الاسماء هي (25) استعارة اسمية .

4 ـ ومن بين الأسماء والأفعال ما يحتوي على الاستعارة والرمز مثال ذلك :                            النشدان , النور , الموسيقا , أعلى الشلال , الأنغام , أسفل الشلال , الوادي الأخضر , استقبال الماء , عطر العالم , الحناء =10 .

5 ـ لتلك الاستعارات عددا كبيرا من مفارقات المعنى , ولو افترضنا ان لكل لفظة استعارتين فضلا عن اللفظة ذاتها فسيصير العدد الكمي ـ احصائيا ـ مرتباً على الوجه الآتي :

ـ ان عدد الاستعارات الاسمية والفعلية = 50 استعارة .

ـ ان عدد الاستعارات الرمزية  = (10).

ـ ان مجموع الاستعارات (60) ×3= 180 استعارة .

ـ ان عدد كلمات المقطع = (70) كلمة , دون الظروف والحروف.

ـ يتضح التكثيف الشديد , بدلالات التشظي للمعنى , عبر التحديد الكمي الاحصائي , وهذا حجاج واقعي لطبيعة وبيئة عناصر الاستعارة وأهميتها في تقديم بيئة النص بمعقولية مقنعة.

سابعاً : رواء انفاسها

رواء الانفاس .. نعي به الرغبة الإنسانية التواقة لاحتواء الجمال الانساني والطبيعي كله , وإفراغه على شكل لفحات راعفة راجفة مولعة شوقاً لغنى الحياة والحرية , فالرواء تنفس                      لعشق الجمال , ورهافة الوجود , وسعة الود , وغضاضة ارتواء الكائنين ,                            ((الذكر والانثى = الارض والسماء)).

ترى هل الرواية ـ هذه ـ تتحمل مثل هذه الرغبة البهية؟

دعونا لا نصف ولا نكتب المقاطع التي تؤشر فرضنا أعلاه , انما نشير الى الصفحات المعنية بهذه القيم , والقارئ سيحكم بموجب رؤاه ونواياه على صدق فرضنا أو مبالغتنا في هذا , على بعض الصفحات سنجد أدواراً متآلفة للبطلة على النحو الآتي :

1 ـ على الصفحة 8 تتبنى الكاتبة قضية تصاغر القضايا الكبيرة وبالعكس ـ فنياً ـ عبر رواء أنفاس الكاتبة .

2 ـ على الصفحة 10 تتبنى الأديبة فلسفة (ضد المجتمع الدولي) عبر رواء أنفاسها               النفيسة .

3 ـ على الصفحة 25 تقيم النفسانية لنفسها زمناً نفسياً مزاجياً ممتعاً فنياً , عبر رواء أنفاس المتحدثة في المقطع .

4 ـ على الصفحة 28 تندهش المراقبة بالبارا سيكولوجيا , عبر أنفاس القوى الخفية.                5 ـ على الصفحة 90 , 91 , 92 ,93 تصمم البطلة منظومة للتنويم المغناطيسي المبهم , عبر رواء الأنفاس الموهومة.

6 ـ على الصـفحة 94 تقدح البيئة حيويتها الروائية كمهيمنة متضخمة عن قوى الأحداث , عبر رواء أنفاس الطبيعية .

7 ـ على الصفحة 94 تصر المُدَوِّنة على صواب عبثية الهدف الإنساني , ثيمياً , عبر رواء أنفاس الانسانية.

8 ـ على الصفحة 112 تؤكد المُفَكِّرة نوعها المُخّلَّق , انصاف اللا تكامل , عبر رواء الأنفاس الكونية.

9 ـ على الصفحة 120 تثبت القذيفة صدمتها بثورة بكاء على نصف جسد / نصف حياة , عبر رواء أنفاس المعوقين .

10 ـ على الصفحة 152 تجد (روائية الشيئية / اللا شيئية) منفذاً طريفاً لها , عبر رواء أنفاس الموجودات الهلامية.

11 ـ على الصفحة 152 تتستر العاشقة على غزل جسدي أنيق شاعري تماماً , عبر رواء أنفاس العشق الجليل .

12 ـ على الصفحة 155 يتهشم الزمن الخطي , عبر روائية أنفاس الروي .                                   13 ـ على الصفحة 194 يترتب المشهد الكتابي بآلية سينمائية ترتوي من أنفاس                         سمية الشيباني.

16 ـ على الصفحة 227 تتربع الأنصاف على أُسس تهشيم الزمن الخطي , عبر رواء    أنفاس الوقت .

17 ـ على الصفحة 227 تتغنى الرشيدة بانشطارها الذهني , عبر رواء أنفاس الجنون النصفي .

18 ـ على الصفحة 229 تتبنى الروائية صراع الأذواق المعادل لصراع الحضارات ـ عبر رواء أنفاس الراوية.

19 ـ على الصفحة 252 تتبنى المثقفة لون جديد من الحب , نسميه حب الطابور البشري, عبر رواء أنفاس جمال النظام .

20 ـ على الصفحة 260 تتبنى الرائية قضية ديموزا العراق عبر أنفاس الانبعاث      المؤجل .

 

 

سمية الشيباني في سطور

 

ولدت في الكويت وهي من أب عراقي من البصرة وأم كويتية ، عاشت بين المكانين وكأنها ضيفة لا بد لإقامتها أن تنتهي يوما ما.

لم يكن دخولها إلى عالم الثقافة صدفة ، بل هي خططت لتصل إلى هذا العالم ربما منذ طفولتها ، حيث عملت في سنوات صباها الأول في تلفزيون البصرة , لكنها بعد عام غادرت إلى الكويت وبشكل نهائي كان هذا في عام 1981، انضمت إلى أسرة تلفزيون الكويت وبدأت الرحلة الجدية في عالم الإعلام ، استمر عملها في تلفزيون البصرة لكنها بعد عام غادرت إلى الكويت وبشكل نهائي كان هذا في عام 1981، فانضمت إلى أسرة تلفزيون الكويت وبدأت الرحلة الجدية في عالم الإعلام ، استمر عملها في تليفزيون الكويت حتى عام 1987، انتقلت بعد ذلك للعمل في تليفزيون وإذاعة دبي ، واستمر العمل متزامنا بين الإذاعة والتلفزيون في مجال الإعداد وتقديم البرامج حتى 2002  حيث انضمت بعد ذلك للعمل في مؤسسة mbc وكان صوتها هو الصوت الأول الذي أعلن بث برامج mbcfm من دبي والانتقال من لندن.
من مجمل الممارسات الأدبية والفنية والاجتماعية ، والانتقالات بين البلدان والمؤسسات والوجوه تشكلت لديها رؤية إزاء الحياة والعمل وكيفية تنفيذ الخطوات ، هذه الرؤية أنتجت حالة ثقافية من أبرز ملامحها العمق في الطرح والنقاش.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] سمية الشيباني , رواية نصف للقذيفة , دار ميزوبوتاميا , بغداد ـ المتنبي , 2014 , ص 80 , 81

[2] سمية الشيباني , نصف للقذيفة , مصدر سابق :  87 , 88

[3] سمية الشيباني , نص للقذيفة : 30

[4] سمية الشيباني , نصف للقذيفة : 7

[5] باسم حميد صالح , الرواية الدرامية , الشؤون الثقافية العامة  ـ مشروع بغداد عاصمة الثقافة , 2013 , 225

[6] سمية الشيباني , نصف للقذيفة :91

عاجل !!