بحث ابني بين الأفلام عن فيلم يشاركه أبوه مشاهدته، وهي عادته بين فترة وأخرى. فيلمه المختار هذه المرة تدور أحداثه حول أسطورة الفارس (دون كيشوت)، وهي شخصية تحمل الكثير من الفكاهة والضحك، حين يقوم هذا الفارس بتخيل أعدائه ومبارزتهم، بطريقة تفوق توقع المشاهد. ليس له سوى صومعة فارغة، وصوته الذي يزأر به فلا يخيف ذبابة! لم تكن تلك الصولات إلا هيجانًا فارغًا، استمده من قصص وروايات تتحدث عن أبطال وفرسان على مر الأزمان السالفة، كلما مر برواية تقمص دور البطولة فيها، حتى تحول إلى الرواية الأخرى… وهلم جرًا.
حين يربي الأب أبناءه على الطاعة والخوف، والالتزام الصارم، ولا يستطيع الأبناء أن يعبروا عن آرائهم إلا حين يتكورون في حجر دافئ مظلم، معبرين بصوتٍ هامس، خيفة من الأب المسيطر، وإن حدث وعبر أحدهم؛ فر بعيدًا عن داره، وصار يهتف من بعيد؛ خوفًا من غضب الأب القائد.
هكذا ربى الأب القائد أبناءه العراقيين، على مدى ثلاثة عقود؛ اكتم صوتك، عبر عن رأيك في عقر دارك. وهكذا ربى الآباء أبناءهم بطريقة الجد القائد ابن الحزب العابث، وكلما تطورت أدوات التعبير تفنن الأحفاد في التقليد، في مشهد من مشاهد الـ(دون كيشوت) الذي يعود من جديد، ولكن هذه المرة بزي الفارس العراقي، ومبارزة أكثر تطورًا، وجوهر القصة بقي كما هو؛ التوهم والخيال للمبارز الهمام.
يقف الكيشوت العراقي خلف شاشات الكومبيوتر، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يزأر ويبارز داخل الـ(بوست)، وينادي على خصومه عبر التعليقات، من خلال شبكة الإنترنيت، بينما صاحب السيادة مطمئن البال، رغد العيش، وما من قوة تقلق مضجعه سوى صفحات تسوق كل يوم مطالبَ وشكاوى، وتحدياتٍ ووعيدًا، وكأنه استطاب العيش، وهو يتابع الشعب الكيشوتي المبارز بأقوى أسلحة الدفاع، التي تنتهي بمجرد إغلاق الصفحة أو انقطاع الاتصال. وما إن تحدث صولة حقيقة في العالم الواقعي، على إثر صولة من العالم الافتراضي، حتى نفاجأ أن فرسان الصولة لا يتجاوز عددهم سوى نسبة ضئيلة مقارنةً بالثائرين والمطالبين الذين نجدهم كل يوم بحمى الوعيد، فيخال لهم أن صاحب السيادة رجل ذو فكر يستقطب، وذو وجهٍ يخجل.
ماذا ينتظر هؤلاء الكيشوتيون، الذين يعيشون في وهم اسمه (بماذا تفكر)؟ أن ينحني صاحب السيادة أمام صفحاتهم، أم يتنازل عن عرشه؟
نحن بحاجة إلى واقعية أكثر بلا عوالم افتراضية أو هواتف ذكية، تنقل الحدث. نحن نحتاج الحدث الذي تصنعه عقول ذكية تدبر، وقلوب نقية تصبر، وفكر متجدد ينور.