سايكلوجية الانتحار في المجتمع العراقي | د خليل ابراهيم الموسوي

هيئة التحرير7 أكتوبر 2025آخر تحديث :
سايكلوجية الانتحار في المجتمع العراقي | د خليل ابراهيم الموسوي

تعدَّ ظاهرة الانتحار من  أخطر التحديات التي واجهت المجتمعات الاسلامية على نحو العموم، ومجتمعنا العراقي على نحو الخصوص، فهي ظاهرة متعددة الابعاد والاتجاهات، تجاذبتها صنوف من الثقافات الدخيلة، التي انعكست سلباً على واقعنا الاسلامي المعاصر، الامر الذي يدعوا إلى دراسة ابعاد هذه الظاهرة من زوايا متعددة، دينية واجتماعية ونفسية، للوقوف على ابعادها وتوجهاتها، ضمن اطر انسانية تجمع بين النص الديني، والواقع الاجتماعي، وبين الفرد والمجتمع، في محاولة لتقديم قراءة علمية قائمة على الاستقراء المنهجي الدقيق.

فالرؤية الدينية لاتنظر إلى الانتحار كتصرف فردي آحادي؛ بل تنظر إلى ابعاده الاجتماعية، التي تنعكس سلباً على منظومة القيّم السلوكية، كما تمثل تحدياً صارخاً أمام الاديان السماوية، التي تعتبر الكائن الانساني خليفة الله في ارضه، له كينونته ووجوده الفاعل، وله حزمة من الحقوق التي يجب أن تحترم.

هذا وقد افرد المشرع الاسلامي باباً خاصاً بظاهرة الانتحار، وعدَّه جريمة إنسانية، يجرَّم فاعلها، وهي من الكبائر، التي لاتشملها الرحمة الالهية، باعتبارها قتلاً للنفس المحترمة، قال تعالى:﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾( ).

ونظراً لأهمية تلك الدراسة، سوف نتوقف عند الرؤية الاسلامية، مضافاً لمعرفة الاسباب المؤدية للانتحار، وما هي السبل الكفيلة للحد منها.

أهمية البحث:

تكمن أهمية البحث في دراسة ظاهرة الانتحار، كايدلوجية عالمية، اثارت جدلاً  كبيراً على مستوى الدراسات الاسلامية، والنفسية، والاجتماعية، إذ يعتبر القرن الحادي والعشرين بوابة التلاقي بين المجتمعات العالمية، حيث التطور التكنولوجي، الذي جعل المجتمع الانساني عبارة عن قرية صغيرة، تتناقل فيها الافكار والثقافات والمعتقدات، حيث ساهمت في انتقال مختلف الثقافات النافعة والضارة على حدٍ سواء، ثمَ قولبتها من قبل بعض  الشبكات العنكبوتية، على هيئة معتقدات دينية، رسختها في اذهان وعقول الشباب في مجتمعنا الاسلامي ،التي منها: حركة قربان التي ذاع صيتها في الآونة الاخيرة المجتمع العراقي، حتى غدت تمثل تحدياً استثنائياً في الوسط الشيعي، يقوم على ممارسة طقوس دينية ارقَّ من خلالها المؤسسة الدينية والوضع الامني.

وأخرى تُظهر فيه أحقية كل إنسان ممارسة حقه في الحياة، وما يقدم عليه من الانتحار  فهو عمل مبرر، وهو جزء من ممارساته البطولية التي يستحق عليها الثناء والتقدير، وهذا الانتحار تارة يأتي عن طريق رمي النفس من اعلى جبل شاهق أو من أعلى طابق لبرج خليفة، وهكذا يتشجع الشباب ممن يتأثرون بمثل هذه الدعايات على الانتحار بهدف لفت انتباه المجتمع لحالته.

وهذه الافكار، هي عبارة عن نوعٍ من الحروب الناعمة التي تقودها اجهزة الاستخبارات العالمية، وتحركها افكار يهودية ماسونية، تستدعي منا حضور واعٍ لمواجهتها بكل وسائل الردع المعاصر، فالإسلام لايجوز لأي أحد كان حق التصرف في حياته أو إنهائها بإرادته متى شاء؛ لأنه لا يملك حق الحياة أساساً حتى يملك الموت، وهذا الحق هو هبة من الله، وهو من بيده التصرف فيه. والشرائع السماوية مجتمعةً اعتبرت أنَّ الحياة ليست ملكاً للإنسان، وإنما هي ملكاً خالصاً لله وحده، قال الله تعالى:﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بالحق﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً، وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرا﴾.

فائدة البحث:

تأتي دراسة ظاهرة الانتحار بمختلف صنوفها وتوجهاتها الفكرية والنفسية والاجتماعية، لإعادة هيكلة منظومة القيَّم الاخلاقية والسلوكية في المجتمع العراقي، والوقوف على ابعاد هذه الظاهرة التي باتت تورق المجتمع الانساني على نحو العموم، والمجتمع العراقي على نحو الخصوص، وايجاد العلاجات الناجعة للحد منها، ونشر الثقافة الانسانية التي جاءت بها الشريعة الاسلامية التي تمثل البلسم لجراحات النادمين والمغررين الذين وقعوا ضحية للثقافات والافكار الغربية، مع مراجعة جادة للمؤسسات المدنية في فتح احضانها لفتح باب الرحمة والود، في ايجاد وسائل العيش الرغيد لكثير من الشباب الذين ضاقت بهم سبل العيش بكرامة، نتيجة سوء التوزيع الاقتصادي.

المطلب الاول: اسباب انتشار ظاهرة الانتحار

لايسعني في هذه الورقة البحثية الوقوف على دقائق ظاهرة الانتحار، ولكن كما يُقال في القاعدة الشرعية والفقهية:« مالا يُدرك كله لايُترك جله»، وسوف نتناول ما توصلنا إلى تحقيقه:

1- التداعيات الفكرية والدينية:

المتبادر في اغلب الدراسات يتم تناول الجانب الديني كعنصر اساسي يمكن الاتكاء عليه، في معرفة الاسباب في جميع الابحاث بمختلف تنوعاتها الانسانية والعلمية والسوسيلوجية والنفسية، مقارنة بالتصورات الغربية، ومسألة الانتحار، هي من الابحاث التي لها نصيب وافر من الشريعة الاسلامية، التي جاءت كتشريع الهي لتنظيم حياة الانسان وتوجيه، لكن في الوقت نفسه، لا يمكن أن نوعز انتشار هذه الظاهرة إلى وجود خلل في منظومة التشريعات الالهية؛ إنما الخلل في التطبيق والممارسة، الامر الذي جعل كثير من الشباب المسلم أن ينفلت من ربقة الاسلام والتوجه إلى ماجاءت به الحضارة الغربية من افكار خلابة وتصورات جذابة، وأحد أهم اسباب التأثر بالثقافات الغربية، ضعف الوازع الديني، فهو يشكّل نقطة انطلاق لكثير من الشباب إلى التألق مع الواقع المعاصر الذي تتصدره الهجمة الغربية، التي استباحت ربوع العالم الاسلامي، فعلى الرغم من وجود  الضوابط الدينية التي تحرَّم الانتحار وتجرَّمه، وتعدَّه من الكبائر، الَّا أنَّ الواقع المعاصر، يفرض قيوداً لترسيخ هذه الظاهرة كثقافة اجتماعية من الصعب بمكان اجتثاثها، على الرغم من قلتها في مجتمعنا الاسلامي، الامر الذي يدعوا إلى مقاربة دينية نفسية لاستئصالها والحد من انتشارها.

2- الاضطرابات النفسية:

من أهم الاسباب التي يعاني منها بعض الناس والتي تؤدي بهم في نهاية المطاف، هو الاضطراب النفسي؛ كالهوس، والانفصام، والاكتئاب الحادّ،  مضافاً إلى  الافراط في تناول العقاقير الطبية، وإدمان المخدّرات وتعاطيها: إذ تعدّ المخدّرات من مذهبات العقل التي تجعله يقدم على بعض الافعال التي لايقدم عليها  كلّ ما لا يتقبّله العقل البشريّ السّليم، فمن الممكن لمدمن المخدّرات أن يمارس سلوكيات، ويقدم على أفعال، وهو غير مدرك لها تحت تأثير المخدّر، كالقتل والاغتصاب والانتحار.

ولا ننسى بعض المشاكل الصحية التي تمنع الإنسان من ممارسة حياته طبيعياً، حيث أكّد أطبّاء على وجود ارتباط وثيق بين المشاكل الصحيّة والانتحار، ومن بينها إصابات الدّماغ المرضيّة، والسّرطان، والفشل الكلويّ، والإيدز، وغيرها من الأمراض، كما أنّ الانتحار قد يكون نتيجةً للآثار الجانبيّة لبعض الأدوية، ومن أبرز الأسباب التي تشكّل حالةً نفسيّةً للشّخص الاعتداء الجنسيّ، والتّحرّش الجنسيّ، والتّفكّك الأسريّ، والبطالة، وانعدام التوزيع الاقتصادي، يولد حالة من الانتقام التي تؤدي بصاحبها إلى الانتحار خجلاً من عائلته التي لايقدر على اطعامها والانفاق عليها، وقد شهدت مثل هذه الحالات، فنتيجة للضغوط الاسرية، وتدهور الوضع الاقتصادي، الامر الذي يتطلب مقاربة شاملة تجمع بين الفقه الاسلامي المعاصر، والعمل المؤسساتي، القائم على نشر الوعي الفكري والثقافي، من اجل إعادة منظومة القيَّم الاخلاقية والسلوكية، وتوفير فرص اقتصادية عادلة، تتيح للشباب اظهار قدراتهم العلمية، مع دعم واضح لمنظمات الصحة النفسية لإعادة تأهيل الشباب ومشاركتهم الفعالة كعنصر فاعل في المجتمع.

المطلب الثاني: ظاهرة الانتحار في الديانات السماوية والفقه الجعفري

جميع الاديان السماوية (الابراهيمية والموسوية والانجيلية)، تتفق على مكانة الانسان وقدسيته، وأنه المخلوق الادمي الذي نفخ الله فيه من روحه وكرمه وجعله خليفته في ارضه، ومئال التكريم ينبغي الاحترام لكل عضو من اعضائه، فما بالك بنفسه المطمئنة.

وفي الإسلام يحكم بخلود القاتل بالقتل العمدي في النَّار( )، وكذلك بقيَّة الاديان السماوية، اعتبرت القتل العمدي من كبار المحرَّمات( )، وقد وردت نصوص صريحة في الشريعة الاسلامية، تحرَّم الاقدام على الانتحار بعمدٍ، ووصف المنتحر بالفاسق، بإجماع العلماء، سنةً وشيعة، لأن فيه اعتداء على النفس المحترمة،.

وقد استدل الفقهاء على التحريم بالنصوص القرآنية الصريحة، والسنَّة النبوية الشريفة وروايات أهل البيت(عليهم السلام)، والاجماع والعقل والسيرة العقلائية، أما النصوص القرآنية، لقوله تعال: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نــَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا﴾( )،وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾( )، قد عدّ الله تعالى الانتحار مِن الكفر ،كما قال سبحانه: الله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ..﴾( )، فإنّ الآية تشير لمبدأ عام في حرمة أن يُلقي الإنسانُ نفسَه في التهلكة، والمقدار المتيقّن من التهلكة هو الموت، فتدلّ الآية على تحريم المستوى الأوّل من المستويات الأربعة المتقدّمة للإضرار( ).

نعم، قد يتطلب الامر في حالات معيّنة إلى القول بوجوب الانتحار، وذلك في حالات  الضرورة أو عند تزاحم المصلحة بين المهم والاهم، مثل الحفاظ على حياة المسلمين، أو العمليات الانتحارية ضد المحتلين لأرض الاسلام، وهذا الامر مما لاخلاف فيه،كما جاء في «تحف العقول»، عن الإمام الصادق(عليه السلام)، قال: «.. وكلّ شيء تكون فيه المضرّة على الإنسان في بدنه فحرام أكلُه إلا في حال الضرورة»( ).

وجاء في مصادر الفقه الجنائي الجعفري، في أبواب القتل العمدي والوصية ذُكرت أحكامٌ خاصة للشخص المنتحر، ومن بين هذه الاحكام، عدم تبرير الانتحار للشخص حتى في حالات الاكراه، وعدم قبول وصيته، ومعاقبة المساعد في الانتحار، وسقوط الدية.

المطلب الثالث: طرق العـــلاجُ لظاهرة الانتحار

مما لاشك فيه أن لكل داء دواء، ولكل علَّة معلوم، فلا نجزم بالقول بالاستحالة، وقد اثبتت التجارب أن كثيراً من الامراض النفسية، وِجد لها علاجات نهائية، وتحول المرضى إلى أناس سويين، واعضاء صالحين في المجتمع، ومن أهم ما استنتجناه للعلاج الناجع لحالات الانتحار.

1-  تعزيز العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، وقراءة آيات الذكر الحكيم، التي تبعث نحو الاطمئنان وبث روح التفاؤل.

2- الاستفادة من الحكم والمواعظ التي تلقى عن طريق المنبر الحسيني، مباشرةً، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

3-  الاستفادة من أوقات الفراغ واستثمارها بالقراءة النافعة.

3- دور المؤسسات الحكومية والمدنية، في توفير فرص العمل للشباب العاطل.

4- الدور الرقابي في متابعة الطلبة، والابلاغ عن الحالات الشاذة والمريبة.

عاجل !!