رواية غبار الخيول .. “تمظهرات الإرهاب الفكري في السرد الروائي” للروائي علي لفته سعيد / قراءة / عقيل هاشم

هيئة التحرير19 أغسطس 2025آخر تحديث :
رواية غبار الخيول .. “تمظهرات الإرهاب الفكري في السرد الروائي” للروائي علي لفته سعيد / قراءة / عقيل هاشم

علي لفته سعيد صاحب مشروع أدبي متجدّد، تتقاطع فيه الحساسيات الشعرية الحديثة مع الخيال، وكذلك يبثّ أسئلة وجودية لاذعة، ووعيًا عميقًا بالهشاشة المعاصرة. كتب في الشعر والرواية والنقد، ويمتاز صوته الأدبي بفرادته، لا يسكن في يقين، بل يكتب من مناطق الشكّ، ويقيم في تخوم اللغة، بين الحلم واليومي.

إن المادة الخام في هذه الرواية أراد لها المؤلف أن تنفتح، وبقوة، على التاريخي والسياسي والديني الذي سيحيط بالنصّ التخييلي وبدائرة واسعة، لكنه شاء أن يجعلها تضيق من جديد وبكثافة عالية. “كيف يمكن أن تُقنع الإنسان أن القتل هو السبيل لتحقيق الأهداف؟ – سألني خيري.. أين سرحتَ يا رجل؟ قلت له: احفظ كلماتك عن التصوف والشعر، واحفظ كلمات أخي عن العرفاني، آتٍ والسؤال الغائب…”

الرواية “غبار الخيول” سردية في مواجهة التطرف، تلك مقاربة فكرية جعلها الكاتب بقعة ضوء كاشف تجعل من الإرهاب الديني موضوعًا رئيسًا لها، وتكشف تمظهرات التطرف الديني في الرواية ما بعد الربيع العربي وتجلياته. الرواية بين إرهاب المقدّس الديني وبين إرهاب السلطة: بين هاجس التوثيق وبين متطلبات الصنعة الروائية.

من خلال العنوان استطاع الكاتب تقديم إضاءات تكشف رؤية المثقف لمفهوم الإرهاب الديني، وأسبابه وبيئته وتمظهراته، وآثار توظيفه في تحقيق المآرب، باعتباره نموذجًا لهذه التحولات الفكرية ومتغيراتها. مع ضرورة التركيز على الطريقة التي يمكن بواسطتها الحصول على التأثير في المتلقي. ومن منظور الكاتب السير الذاتية، فإن ذلك لا يتحقّق على النحو الملائم إلا بقدرة الكاتب على جعل عالمه الروائي منسجمًا بين الخطاب والنص.

ولمعرفة صوت الرواية وكشف موضوع الإرهاب سرديًّا، والوقوف على ترسيماته الفنية: “عشر سنوات مرّت على التغيير الذي حصل في العراق، وعلى تلك الصورة التي تداولتها كل وسائل الإعلام في العالم: وضع الجندي الأمريكي علم بلاده على رأس تمثال ضخم لصدام حسين في ساحة الفردوس”.

الرسالة الأعمق التي يتركها الكاتب بين السطور، أن الكتابة – سردًا/شعرًا – في زمننا ليست ترفًا، بل مقاومة ناعمة. إن الذاكرة تحتاج إلى أشكال جديدة لحفظ الألم، وإن المثقف، في النهاية، ليس شاهدًا على الواقع فقط، بل هو من يعيد ترتيب رماده بصيغة يمكن أن يتنفسها المستقبل.

الكتابة لدى الكاتب جحيم، يتجاوز كونها تفكيرًا مسليًا للحكي فحسب، بل هي روح معاصرة أنهكها التيه. وقد توصّل الكاتب من خلال بثّ أفكار عميقة في السرد إلى إبراز جهود الفن الروائي في مقاومة المحتل، إذ يكشف المضمون عن وجهه في مثل هذا الإنتاج قبل أيّ مظهر من مظاهر الشكل. ذلك أنَّ من المميّزات الفارقة في سرد رواية المحنة أنها تكشف راهنها المأساوي، ليلتفت المتلقي إلى بذخ الحكاية وأصالة التخييل.

لتجد أنّ الكتابة حين تضطر إلى الاختيار بين أن تكون محاكاة أو أن تكون تخييلاً، ربّما تكون المحاكاة ذلك الخيار الفني الذي ينمّ عن تصوّر لوظيفة الكتابة وقضايا الجنس الأدبي، أكثر مما يشي بقصور في التعامل مع مقوّمات الكتابة والتخييل. بمعنى: هي قراءة الواقع العربي “تونس”، واستلهام تلك الوقائع نصيًّا.

“أدرتُ الكاميرا لأخي وقلت له: هذه المدينة القديمة حيث يسكن التاريخ الجميل. ترى ما الذي يمكن إضافته لهذا المشهد الصغير في أحداث بعض التغيرات في داخله؟”

رواية “غبار الخيول” للروائي علي لفته سعيد، والصادرة عن دار ميزر للنشر والتوزيع – السويد ٢٠٢٥.

بطل الرواية ” أمجد” الشاعر العراقي المدعو إلى مهرجان شعري في تونس. الروائي قدّم محنته كنموذج روائي تصدّى لظاهرة الإرهاب الفكري للمدّ الإسلامي المنحرف.

أقول إن مادة السرد هنا في النص الروائي تتشكّل من إخضاع وتطويع المرجعيات من قبل الروائي، وصولًا إلى إنتاج نص جديد بمواصفات فنية وتقنية تقطع صلته بما استند إليه من مرجعيات، سواء كانت معاصرة أو تاريخية، صوتية كانت أم مكتوبة.

الرواية بمثابة مدوّنة سردية مهمة، تميّزت بالمغايرة، إذ يأتي النص الجديد مغايرًا من حيث مناقشة موضوع الإرهاب: “قتل/ تفجير/ إلغاء الآخر/ تكفير/ فتاوى”. هذا على مستوى المضمون، أمّا على مستوى الشكل، فنجد توظيفًا سرديًّا لتقانة الاتصال بالواتساب، بالإضافة إلى مفاتيح شعرية – قصائد وامضة قصيرة يجسّد فيها كاتبها ذروة فنية من تدخّل أجناسي، لتؤكد ذائقة المتلقي الموجّهة له الرسالة، ذلك التفرد الواضح لهذا النوع الأدبي الإبداعي في تكوين موضوعي متدفّق بانسياب عضوي عبر وعي شعري يكشف عن الانحياز للحياة، من خلال آلية التوصيل والشعور بالأثر واستنهاض المعنى باعتماد أسلوب السرد الشعري والتركيز على الفكرة المختزلة.

“أنتم معشر المثقفين، كل شيء يتحوّل لديكم في النقاش إلى السياسة، ولا يوجد ما هو مقرب إلى الدين. حتى حين تتحدثون عن الإنسان فإنكم تتحدثون بطريقة سياسية أكثر منها إيمانية”.

أقول: الكاتب استخدم أسلوبًا تميّز بالعمق، ينزح بدوره نحو الأفق البعيد للممكنات الفنية، تاركًا بصمته السردية، كون نصّه السردي مفتوحًا، يعمل على تشكيل معانٍ كثيرة منبثقة من الوقائع التاريخية والسياسية والاجتماعية وأحداثها المتشابكة. بمعنى أن هذه الرواية تظهر لنا بأنها كُتبت بجهد كبير جدًا وبدقة محسوبة، واكتناز المشاعر الإنسانية العميقة، شأنه في كتبه الروائية والقصصية الكثيرة، والتي لا تخلو من حمولات أيديولوجية.

“المتعصبون هم نتاج أيّ استغلال للتغيير، وربما لا يوجد فرق في التوجه نحو التعصب هنا والعلوم واستغلال الأحزاب. لكن الفرقان أن تونس فيها متغيرات من نوع واحد، وفي العراق المتغيرات من جهات عديدة؛ تونس بلا مكنونات، والعراق تتنازع فيه المكونات”.

إن ما قدّمته هذه الرواية على مستوى البنية الفنية، أنها انفتحت في نموذجها على سمات فارقة في تعامل التخييل مع المادة الوثائقية، بالشكل الذي منحها إثراءً، من حيث تطويع اللغة السردية في تشكيل الحدث، وما تفيض به من اشتغال على كسر المألوف والتوقع. بالتالي نحن أمام نصّ سردي تشكّل من الواقع على مستوى المرجعية، لكنه على مستوى البنية النصية أعاد تشكيل التجربة الإنسانية التي عاشتها الشخصية الواقعية، وحلّق بها في سماء ومجازات التخييل، استجابة لما يتيحه السرد الروائي من نزعة تمنح المؤلف المساحة التي يرغبها في التجريب لبناء مادة خطابه الفني وطريقة سرده.

وختامًا، الرواية يتصارع فيها عدد من الشخصيات، ابتداءً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. تكتشف ذلك من خلال حواراتهم المنفتحة، بالإضافة إلى انفتاح السرد على أشكال كتابية متنوعة؛ ففيها حضور للشعر، وحضور للتأريخ، وحضور للوثائق والأرشيف. والرواية إلى جانب ذلك تحمل زخمًا من المعلومات التي تثري صفحاتها. إذن، هي رسالة غير مباشرة، أقل ما تثيره هو عملية فضّ المسكوت عنه، لا سيما موضوعة الإرهاب الفكري.

عاجل !!