تعد القصة القصيرة من أكثر الأجناس الأدبية التصاقا بالواقع، إذ تسعى إلى تكثيف التجربة الإنسانية ضمن إطار سردي مختصر وواضح. ولكن حينما تشتبك الفلسفة مع هذا الفن الموجز، تتولد نصوص تفتح أبوابا للتأويل والتساؤل. من هنا، تبرز قصة “من أوراق المسافر السرية” للقاص حسين محمد شريف، كواحدة من التجارب العراقية القليلة التي اقتربت من الفلسفة، متجاوزة حدود التقليد نحو فضاءات أكثر تعقيدا.
التحليل:
يعجبني شخصيا أسلوب الكاتب حسين محمد شريف في الرواية، لما يمتلكه من قدرة على خلق عوالم سردية نابضة بالحياة. إلا أنني أتعامل بتحفظ شديد عند تناول القصة القصيرة نقديا، خصوصا حين يبالغ الكاتب في الرمزية، وهو ما يجعل النص يفقد واقعيته، برأيي. فبينما تحتمل الرواية فائض الرموز والتأويلات، تظل القصة القصيرة متطلبة للوضوح والتركيز.
قصة “من أوراق المسافر السرية”، التي نالت الجائزة الأولى في مسابقة الزمان الإبداعية عام 2010، شكلت عنوانا لمجموعة قصصية صدرت عن دار السرد سنة 2025، وتضمنت خمس عشرة قصة. سنتوقف عند هذه القصة الافتتاحية، التي حازت اهتمام لجنة التحكيم والجمهور على حد سواء.
[تقرير لجنة الجائزة:]
“قصة (من أوراق المسافر السرية) وظفت الصراع الإنساني بين الأمل واليأس، والضوء والظلام، والأسطورة والواقع، في سياق سردي يتسم بالوصف والحوار، حيث يتقاطع فيه (الأنا) مع (الآخر)، ويحتوي كل منهما على مجموعة من الذوات الرمزية. كما تهيمن على القصة أجواء الحلم والفانتازيا، التي نجح القاص في تقديمها بأسلوب قابل للتأويل، عبر انتقالات سردية وتفاصيل دقيقة. وتعد القصة من النصوص العراقية النادرة التي تتبنى الطابع الفلسفي، لما تحمله من معالجة للصراع الإنساني بين الأمل ونقيضه، وبين الاختيار ونقيضه كذلك.”
[انتهى تقرير اللجنة]
لقد توقفت طويلا عند بعض العبارات ذات الطابع الفلسفي، والتي تنطوي على عمق تأملي ملفت. يقول القاص مثلًا:
“إنه يعيش في إشكاليات الاختبار والاختيار ثم الاجتياز. ماذا لو لم يدخل في التجربة أصلا؟ غير أنه فاته الأوان، لقد قبل الامتحان، ولا بد له من الاستمرار اللامعنى للوصول، ومهما كلف الأمر. ولكن المشكلة استمرار إحساسه بالمكان والزمان اللذين لم يكن باستطاعته تبيانهما لاستحالة ذلك. فلا حدود واضحة للمكان يمكن بموجبها تحديد الزمان، ولا بداية للزمان تحيل إلى المكان. فلا مناص – والحال هذه – سوى المضي بالطيران، والطيران، والطيران… حتى الوصول.” (ص12)
هنا، يحيلنا القاص بوضوح إلى مفهوم الزمان والمكان في النظرية النسبية لأينشتاين، وهو أمر يحسب له من حيث الطموح الفلسفي. لكن، من وجهة نظري، فإن المكان في الواقع محدود، والزمن خطي، لا يسير في فراغات تأويلية، بل وفق دقات الساعة المتتابعة. وبالتالي، قد يرى القارئ الواقعي أن هذه الرمزية تبعد القصة عن ملمس الحياة اليومية.
أما النهاية، فقد حملت مفاجأة تختزل المعنى الكامن خلف كل التأملات السردية، إذ يختتمها القاص بعبارة تنفتح على أفق جديد للتأويل:
“حاول اكتشاف المكان الجديد، أدرك بعدها أنه قطع سباته العميق على أصابع أمه.
- أخيرا، قالتها الأم بصوت مرتعش للأب.
- إنه يشبهني، قالها الأب بفرح.
- ولكنها البداية فحسب… قالها الصوت واختفى.”
تبدو النهاية وكأنها إعادة ميلاد أو انبعاث جديد، وكأننا أمام دورة زمنية لا تنتهي. وقد يراها البعض نهاية غامضة، لكنها في سياق القصة محاولة للإجابة عن سؤال الوجود من زاوية الحلم واللاوعي.
الخاتمة:
في قصة “من أوراق المسافر السرية”، ينحرف القاص حسين محمد شريف عن النمط التقليدي للقصة القصيرة، ويدخل منطقة ملغومة بالفلسفة والتجريد، ليخلق نصا مركبا يتجاوز الواقعية نحو فضاء من التأمل والدهشة. وبين الجدل القائم بين وضوح الواقع وغموض الرمز، تتشكل القصة كمرآة لصراع الإنسان الأبدي بين اليقين والحيرة. إنها تجربة سردية تستحق التأمل، حتى وإن اختلفنا في طريقة تلقيها.