يحتلُّ الرثاءُ مكانةً كبيرةً لدى الشَّاعر المبدع (حسين الهاشمي) , وهذا يتَّضحُ من خلال كثرة ورود هذا الموضوع في أشعارهِ , ولعلَّ سبب ذلك يعودُ إلى فطرة الشاعر النَّقيَّةِ وأحاسيسه الفيَّاضةِ وصفاء سريرته , التي جعلت منه شاعرا لا يمتلك القدرة على تحمُّل مشاعر الكَمَد وفراق الأصدقاء , ومن ثَمَّ فمن شأنِ حوادث الموت ولواعج الفراقِ أن تُثير فيه المشاعر , وتَستَثير عواطفَهِ لتدفع بهِا نحو البُكاء والأنين , ويمكنُ أن نلحظ توزُّعَ الرثاء لديهِ بين معانٍ , لعل من أهمها : يتمثَّلُ بندب الأصدقاء , والزملاء. وأمام حتميَّةِ هذهِ المأساةِ وقفت الإنسانيَّةُ منذُ الأزل , تُعبِّرُ عن عاطفة الألمِ كلَّما امتدَّت لها يدُ الغيبِ , لتُعطِّل فاعليةَ الحياة في إنسانٍ ما , ليكون الرثاءُ هو هذا التَّعبيرُ الذَّاتي بالتَّفجُّع على الميت وبُكاء فضائلهِ , وتصوير مشاعر وجدانية خالصة حيال حادثة الموت , ولا يقفُ الرثاءُ على تخليدِ الإنسانِ الميتِ فهو تخليدٌ لقِيمٍ اجتماعيةٍ وإنسانيةٍ اقترنت بهِ أيضاً , فكلُّ صفةٍ من الصِّفات التي يقدِّمها الشَّاعرُ ( حسين الهاشمي ) للمرثي تقترنُ بفضيلة ٍ من الفضائل , وهذه الفضائل تُمثِّلُ البنيةَ الأساسيةَ للإنسان السَّوي حيَّاً , وتكونُ سبباً لذكرهِ إذا مات , هذا فضلاً عن أنَّ الرِّثاء يُعبِّرُ عن فضيلةٍ إنسانيةٍ أخرى تتصلُ بالمبدعِ نفسه , يتمثَّلُ بالوفاءِ لإنسانٍ فارقَ عالَم الأحياء0
وهنا تظهرُ براعةُ الشَّاعر(حسين الهاشمي) في تجسيدِ ذلك المشهد المأسوي والإلمام بتفاصيله , إذ نستشفُّ في نصوص (احتيال على الفصول ) ذلك الأسلوب الرَّقيق الذي يُثيرُ الرَّحمة في أقسى القلوب , ويَستدرُّ الدُّمُوعَ ألماً وحرارة , ولنا أن نتصوَّر حالَ الشاعر المبدع في رثاء الشاعر ( رعد عبد القادر ) بعد مضي سنوات قاهرة جعلته حزينا عليه وهو اقرب إنسان إليه وهو في صراع دائم يقارع الإحزان , ويتغلب عليها , ويبكي دما على ما فاته من أيام جميلة قضاها الشاعر مع الأهل والأحبة,فنراه يقول :-
الحرية فوضى الشرفات
من يتذكرها الآن؟
دعها تتعجب شكلها
ودع الهشيم يغرد
ويحتمي بالكارثة
وأحياناً يرتفعُ الشَّاعر إلى مستوى الحدث المؤلم , فيأتي رثاؤهُ عاطفيَّاً ، فالشَّاعر يسجِّلُ مُضِيَّ الأصدقاء وتوجُّعِهُم ممَّا آلَ إليه حالُ الفقد والعناء على فراقهم , وقد كثرت الحوادثِ وهواجسُ الهمِّ والأنين من البعد ، وهي علامةُ من علامات الرحيل عنه , وها هو يخاطب الشاعر الكبير (مظفر النواب), فالقدرُ قد قسَّم أرزَاءَهُ بيننا وليس بوسعِنَا ردُّه أو الاعتراض عليه سوى تحمُّل مشاقة وألمهِ , ويصور الظلم الذي تعرض له صديقه فنراه يقول :-
لم يكن حزنا
ليستجدي زمانه
أنما كان البنفسج للبلاد
عطر العويل
أو الهتاف
كما العناد
وسيم البوح
يشدو بالإدانة
تميز الشاعر (حسين الهاشمي ) في مجموعته الشعرية (احتيال على الفصول ) برثاء الميتِ بالعبارات المُشجية والألفاظ المُحزنة التي تُصدِّعُ القلوب القَاسية , وتُذيبُ العيونَ الجامدة, لتكونَ المرثيَّةُ مليئةً بالتأوُّه والعويل , وتحملُ مشاعر الثكل أو التَّرمُّل , مفعَمة بالتَّوجع , وحرقة الأحشاء , ونستطيع تسميته (بالرثاء العاطفي) فذلك يعودُ إلى كونهِ يختصُّ برثاء الأب أو الأقارب ومن ينزلُ منزلتهم , فضلاً عن تميُّزه بعنصر الصِّدق الذي ينمُّ عن الحسرةِ الشديدةِ والالتياع والذُهُول إزاء هول الموت والجزع من خَطبهِ , والشاعرُ تعمد إلى رثاء الموتى بأشدِّ العبارات أسىً وحزناً , فللموت فعلٌ يجذبُ الألمَ والأنين , وقد بَدَت علاماتُهُ بالظُّهور بعيداً عنهُ ، إلَّا أنَّهُ باتَ على مقربةٍ من بصيرتهِ وبصرهِ , وقد تجسد ذلك في رثاء أبيه فنراه يقول:-
إلى روح أبي:
حين دفعتني الريح
إلى الخلف
تذكرتك
وتذكرت باني وحيد
تدفعه الريح إلى الخلف
إنَّ رِثاءَ الآخَر لدى الشاعر انقسم إلى ثلاثة أنواع هي : رثاء الأهل , والنَّدب , والتَّأبين , وقد اتَّسمت هذهِ الأنواع كلُّها بصدق العاطفة , وعمق الأسى , وصدق الموقف الشِّعوري , وبالأخصِّ فيما يتعلَّقُ برثاء إلام , وندب الأهل , فالذاتُ تقطرُ حزناً و ألماً على مصابِها النَّاتج من شعورها بقرب لحظة الموتِ منها , لذلك التجأت إلى رثاء ذاتها بالتَّفجُّعِ والبُكاءِ ، الأمرُ الذي ازداد حرارةً وغُصَّةً مع ندب والدته خاصَّةً وأنَّ القدرَ قد اختارَهُا , واختطفَهُا بعيداً عنه , فكان لذلكَ الموقف جُرحاً غائراً تركَ أثراً عظيماً في نفسهِ ,فنراه يقول :-
إلى أمي :
منذ بزوغ الكون
كلما تبعثر الأشياء
لا
سوى مرتفعات دعاء
كالهديل
في كوني المبعثر
أمَّا تأبينهُ ثُلةً من الأُدباء فقد كانوا ممَّن تسلَّقوا , وملكوا قلبَ الشاعر , فما كان منهُ إلَّا أن يبادلهم مشاعرَ الصَّداقة والوفاء الخالص , وفي رثاء صديقه (خالد الجيزاني),وهو يتحدث عنه, وكيف كانت الصداقة بينهما قوية , فنراه يقول : –
الموت آخر البخلاء
ربما
وأول الورثة الكبار
يقرا الرسائل بخفة
يطرق بابا العناوين
وبتواصل حميم
يقطع شريط العمر
مندهشا
لرحيلك المباغت
إنَّ الشاعر ( حسين الهاشمي ) في موضوع الرِّثاء اتسم بأُفقَ التَّجديدِ الشعري , وخرج إلى فضاءاته الواسعة , بل التزم معنى الرِّثاءِ التَّقليدي , فضلا عن ذلك انه خرج عن محور القصيدة العمودية , أمَّا صفاتُ الموتى وفضائلهم فقد منحهم أبعاداً دلاليةً تَزيدُ من الإشادة بهم , وبمصادر ثقافتِهم بين النَّاسِ , فضلاً عن ذلك فقد أكثرَ من معاني البُكاء, والتَّأمُّل, والحكمة التي تُصاحِبُ دلالةَ الرِّثاء0