درس أبيض / د براق طالب الموسوي

هيئة التحرير11 أغسطس 2025آخر تحديث :
درس أبيض / د براق طالب الموسوي

لم يكن أول يومٍ دراسيّ مجرّد بداية تقويم دراسي، إنما كان بداية إدراكٍ خفيّ لما ستؤول إليه الرحلة الطويلة. ما زلتُ أراه كأنّه يحدث الآن، الممرات الضيّقة التي كانت تتّسع لحماستنا الطفولية، المقاعد الخشبيّة التي نحجزها برغبة لا تُفسَّر، والأيادي البيضاء الصغيرة التي ترتفع قبل أن تُدرك الجواب، فقط كي تُقال إنها نالت شرف المشاركة.كنا نتسابق لا على العلامات، إنما على ملامح الانتماء الحقيقي. نحاول بفطرتنا، أن نثبت وجودنا في عالمٍ لم نعرف بعد حدوده. كانت الفصول تضجّ بالضوء، لا من النوافذ، تتعالى من أعين المعلمين الافذاذ. أولئك الذين لم يكونوا يدرّسوننا فحسب، هم كانوا يمرّرون من خلال كلماتهم ملامح مصيرٍ سنفهمه لاحقًا.كنا نهابهم لا خوفًا، بل احترامًا. كانوا يقفون أمامنا كما يقف الحكيم أمام العطش. في حضورهم، كنا نشعر أن للعلم هيبة، وللكلمة ظلًّا 

لا يُزاح.وكان بينهم رجل لا يُشبه أحدًا… الأستاذ جبار.لم يكن أطولهم قامة، ولا أعلاهم صوتًا، لكنه كان، بلا شك، أعمقهم أثرًا. كان يدرّس الرياضيات، غير أن ما غرسه فينا تجاوز حدود الأرقام والمعادلات. لقد علّمنا كيف نُفكّر، لا كيف نُجيب. كيف نُخطئ بشجاعة، لا كيف نتظاهر بالكمال.في أحد الأيام، وقفتُ أمامه وقد نسيتُ دفتر الواجب في المنزل. كنتُ طفلًا صغيرًا يخشى نظرات السخرية أكثر من أي عقاب. وقفتُ متردّدًا، أتلعثم، والخوف يطرق صدري كطبول معركة خاسرة. لكنه، بخلاف ما توقّعت، نظر إليّ بهدوء يشبه تعلوه الحكمة، وقال:مرّات العقل يشتغل أكثر من الورق… تعال إلى السبورة.

تقدّمتُ ببطء. أخطأت. ثم نظرتُ إليه، فإذا به يبتسم ابتسامة صغيرة، لا تسخر ولا تُدين، هي تحنو وتُنذر. وقال كلمته التي لم أنسها حتى اليوم:

الذي لا يُخطئ، لا يتعلّم… لكن المصيبة أن تمرّ على الخطأ كما لو لم يكن.كأنّ تلك الجملة كانت بابًا فتح في داخلي غرفا لم أكن أعلم بوجودها. لم تكن مجرد نصيحة، كانت دعوة لأن أعيش بصدق. أن أرى الخطأ جسرًا، لا هاوية. ومنذ ذلك اليوم، تغيّر فيّ شيءٌ لا يُرى، لكنه ظلّ يعمل بصمت، كما يعمل الجذر في عمق الأرض.ومضت الأعوام، وكبرتُ. لم أعد التلميذ المرتبك، بل أصبحت المربي الذي يكتب بالطباشير ذات الحروف التي سمعها يومًا. صرتُ أقف أمام وجوهٍ  تُشبهني، لا في الملامح، بل في الحيرة، والرغبة، والخوف.وفي أحد الدروس، وقف احدهم أمام السبورة. نسي إجابته، وعجز عن الكلام. تعالت بعض الضحكات، وتسارعت الهمسات، لكنني لم أسمعها. كنتُ أراه، كنتُ أرى نفسي فيه، وكأنّ الزمن أعاد رسم المشهد، لا ليتكرّر، بل ليتكامل.اقتربتُ منه، وانحنيتُ قليلًا، ثم همستُ:

الذي لا يُخطئ، لا يتعلّم… لكن المصيبة أن تمرّ على الخطأ كما لو لم يكن.ردّدتها كما قالها أستاذي، بالحرف والنبرة. وكأنّها كانت تنتظر هذا اليوم كي تولد من جديد.عاد  إلى مقعده وعلى وجهه ابتسامة خجولة، تشبه أول انبلاجٍ في الفجر. أما أنا، فوقفتُ للحظة أمام السبورة، وحدّقت في الطباشير. لم أكن أكتب، بل كنت أسترجع.وقلت في داخلي:ما مات الدرس… ما دام أحدهم يردّده، وما دام أثره يتجدّد في وجهٍ آخر.

إنّ الدروس العظيمة لا تنتهي بانتهاء الحصص، بل تبدأ حيث تُزرع في قلبٍ قابلٍ للفهم، وعقلٍ مستعدّ للدهشة.

التعليم ليس انتقالًا للمعلومة، بل انتقالٌ للنور. وحين يظلّ النور حيًّا، لا يموت الدرس

عاجل !!