حوار مع الذات في مرايا الغيب للشاعرة العراقية نغم العيساوي / قراءة / حسن الموسوي

هيئة التحريرمنذ 3 ساعاتآخر تحديث :
حوار مع الذات في مرايا الغيب للشاعرة العراقية نغم العيساوي / قراءة / حسن الموسوي

حينما يعم الصمت تنبلج المرايا لتعيد صياغة الروح في أبهى صورها . المجموعة الشعرية مرايا الغيب للشاعرة نغم العيساوي والصادرة عن دار نوافير والمتكونة من 215  صفحة ومن القطع المتوسط ، هي قصائد فلسفية بامتياز و قد كتبت على شكل القصيدة ذات الشطرين وقصيدة النثر .العنوان من العتبات النصية وهو ثريا النص ويتكون من كلمتين { مرايا } والمرآة هي سطح عاكس تعكس الصور بوضوح تام والوظيفة المادية للمرآة هي الانعكاس ، إلا أن فيها رمزية عالية حيث تعكس ما بداخل الإنسان لكشف الجمال الداخلي .ترمز المرايا إلى الارتباط بالنفس وهي انعكاس للتأمل والخلوة ، ومثلما للمرآة انعكاس صوري فإن لها انعكاس ذاتي ، أي انعكاس ما بداخل النفس البشرية . والكلمة الثانية { الغيب }  وهو الشيء المضمور غير المعروف  .

نجد في العنوان تناقض بين الكلمتين ، فالمرآة هي انعكاس واضح سواء انعكاس خارجي أو انعكاس داخلي ، أما الغيب فهو مضمور غير معلوم و غير واضح وهنا يكون جمال الوصف باستخدام التضاد في العنوان من أجل إضفاء المتعة لدى المتلقي. المقدمة من العتبات النصية و فيها تتحدث الشاعرة بالقول { في دهاليز الروح حيث الكلام يتوارى خلف ظلال الصمت / تتكشف مرايا لا ترى / مرايا تطل على الغيب .. تتسكن فيها أسئلة لا تنطفئ } ص5 .هنا ذكرت الشاعرة وظيفة المرايا الخفية حيث أن دورها يبدأ حينما يتوارى الكلام ويعم الصمت المطبق .نجد في المقدمة أيضا هنالك ثمة أمنية لدى الشاعرة { لعل الشعر / يكون مرآة نلمح فيها وجوهنا الأعمق / وجها لم يفسده الزمان / وظلا يتوضأ بندى الأسرار } .في مقدمتها تتمنى الشاعرة أن يكون للشعر دور كالمرآة لكنه يعكس الوجه الأعمق ، لا الوجه الظاهري .وكما هو معروف فإن الشعر هو حالة استشرافية تتنبأ بما سوف يحدث في المستقبل ، و بحسب تعريف  ارسطو { إن  الشعر يصور ما يمكن أن يحدث وليس ما حدث بالفعل } .   الغلاف من العتبات النصية أيضا ، وفيه نجد إمرأة جالسة على الكرسي وهي تنظر إلى المرآة .

وضعية جلسة المرأة فيها تأكيد على انها تدير ظهرها إلى الدنيا وغير آبهة بالذي يدور من خلفها .هي فقط تركز على المرآة التي بدورها عكست الصورة ، وصورة الغلاف بمجملها متطابقة مع العنوان و مع بقية القصائد . نجد في قصيدة { الحديث مع النفس } حوارا مع الذات ، ومناجاة النفس هي حوار أدبي راقي حيث تعبر الشخصية عن ذاتها في حوار من طرف واحد وتحدث هذه الحالة عند الإدراك بأنه لا يوجد شخص كفوء لمحاورته أو عند تلقي الصدمات والخيبات نتيجة الحوار مع الآخرين .

والمناجاة هي من الطقوس العبادية أيضا وفيها الخلوة بين العبد وربه .

وهي أيضا  قصيدة ذات طابع فلسفي .

لا وحدة وأنت مع نفسك ، فالإنسان الذي يعتزل الآخرين لا يعتبر وحيدا مادام هو في حالة حوار مع ذاته، ونجد في هذه القصيدة دعوة للاستغناء عن الآخرين { قالت الطريق إلي / والنجاة في أحبني / أن لا أفتش عني في الآخرين / ولا أذبل لأزهر سواهم / ولا أنحني لأشبههم } . هي دعوة للعودة إلى الذات ومصالحة النفس ، ففي عصر الأقنعة وضبابية المواقف نجد إن خير عون للإنسان هو نفسه { قالت احتفظي بي / حين تغرق الدنيا في الضجيج  / تذكري اني كنت هناك / أصرخ بهدوء / عودي إلي / فأنا أنت / وأنت البيت } ص13

وهنا تصبح النفس كالبيت ، حيث البيت هو الوطن والمأوى وهذه أعلى مرحلة تصل إليها النفس ، حيث تكون بمنزله عالية جدا و أعني الوطن .

في قصيدة { مناجاة الروح } نجد أن العنوان الفرعي هو مشابه للعنوان الفرعي للقصيدة السابقة و أعني قصيدة { الحديث مع النفس } .حيث تشبه الشاعرة روحها بالنهر الذي يجري في اعماقها ، والنهر مقترن بالخير كما هو معروف و هو سر الحياة { روحي ليست مرآة تعكس وجهي / بل نهر خفي يجري بي / وحين أغفو على ضفافه أسمع أغاني الطفولة التي نسيتها / وأشم عطر الأمس في أوراق الذاكرة } ص19 .

والشاعرة في قصائدها توضح مهام الروح { حين يشتد ظلام الطريق / تضيء لي دربا لا تراه العيون / وحين أثقل بالهموم / تقاسمني الحمل / وتذكرني أنني لست هذا الجسد / ولا هذه الخيبات / بل أنا قبس عابر في مسافة الأبد } ص20 . أعلى درجات المناجاة هي مناجاة الله ، وبما أن للمناجاة جانب روحي وعقائدي فإن الشاعرة لم تغفل ذلك وتؤكد أن آخر الرحلة ستكون إلى الله { وفي آخر الرحلة / سأترك كل شيء على العتبة / وأدخل إلى الله / بقلب عار … / وروح طاهرة كنسمة فجر } ص22 .

في قصيدة { همس مع الغيب } حيث تستمر المناجاة ولكن هذه المرة مع أطياف من نوع خاص ، هي أطياف من نور غامض كما تصفها الشاعرة ، وهنا تحول كبير ، فبعد مناجاة الذات تنتقل الشاعرة إلى مناجاة الأطياف ، ولعلهم أطياف أحبة فقدتهم في غفلة من الزمن { في مساحات لا يسكنها حرف / أحاور أطيافا من نور غامض / يبتسمون كمن يعرف ما لم يكتب بعد / ويغادرون كهمسة في شقوق الريح / أسأل صدى الوجود / أينا يحلم بالآخر ؟ / أنا بالغيب .. أم الغيب بي } ص 26 .   في قصيدة { مصالحة مع ذاتي } وأبرز الثيم في هذه القصيدة / التصالح مع الضعف / الهشاشة ليست خيانة للذات / في القلب متسعا للرحمة / الابتسامة للماضي / السلام لا يأتي من انتصار دائم / مصالحة النفس / أنا أخيرا معي / .

في كل هذه الثيم ثمة عامل مشترك ووصف ، وصف للحالة كصورة شعرية لكنها تدور ضمن المناجاة التي تصر على أن تكون مع ذات الشاعرة { أقف مع مرآتي / لا لأعاتب ملامحا غيرها الوقت / بل لأسلم عليها / وأعترف أنني كنت قاسيا عليها } .نجد في هذا المقطع تأثير الزمن على الإنسان من خلال تغير الملامح ، لكن الزمن ليست له سلطة على الروح ، فالروح باقية لا تتغير ولا تشيخ .استخدمت الشاعرة أسلوب الانزياح الشعري في قصائدها ، والانزياح هو { خروج الكلام عن نسقه المثالي المألوف أو هو خروج عن المعيار } و الانزياح يخدم بالدرجة الأساس النص الشعري والمتلقي للنص على حد سواء .في الختام هي مجموعة شعرية جميلة وذات بعد فلسفي عميق ، لكني كنت أود أن لا يتم جمع القصيدة ذات الشطرين وقصيدة النثر في كتاب واحد .

عاجل !!