في غابة تُدعى العراق، حيث تُردد الرياح صرخات الأيتام، وتتمايل الشجيرات العتيقة تحت وطأة الجفاف، كان هناك كنز يُدعى “الأمانات الضريبية”، مُخبّأ في كهف قديم
يُعرف باسم “مصرف الرافدين”. لم يعد هذا الكنز مجرد أكوام من المال؛ بل أصبح وعدًا بمستقبل زاهر: ستُبنى المدارس، وستُشيّد المستشفيات، وتُعبَّد الطرق. لكن في غابة يحكمها قانون الغابة، أصبح الكنز معروفًا للجميع عندما هاجمته كائنات لا تشبه الحيوانات، بل وحوش ترتدي أقنعة بشرية. بدأت فصول مسرحية “سرقة القرن”، مُوقَّعة بدماء الأشرار وحبر نفاق المسؤولين.
في ركن مظلم من الغابة، حيث تصل أشعة الشمس بخُجْل، جلس الثعلب “نور الدهاء”، يُدبّر جريمته الكبرى. لم يكن ثعلبًا عاديًا، بل خريج جامعة “اللصوص المهرة”، حاصل على دبلوم في فنون التزوير والتحايل على القانون. لم يكن بحاجة إلى سلاح أو عنف، بل 114 ورقة مزورة، كل منها تحمل ختمًا مزورًا يحمل اسم “النظام”، مما يسمح له بدخول الكهف المقدس ونهب ما يشاء.
لم يكن وحيدًا. بجانبه وقفت ذئاب جشعة، ترتدي بزات فاخرة وتتحدث بلغة “الإصلاح النقدي”، لكن أنيابها
كانت تلمع كلما ذُكرت عبارة “اللجنة”. قال أحدهم وهو يقلب أكوامًا من الأوراق النقدية: “لماذا نهتم بصيد الغزلان؟ هناك كنز يكفي الجميع!”.
كان الغراب، المكلف بحراسة الكهف، مشغولًا بتلميع صورته في بركة قريبة. لم ينطق بكلمة عند دخول الذئاب أو خروجها، لكنه استمر في التكرار بِغُرور: “أنا الدّرع الصّادق، لكن بصري حسّاس للغاية بحيث لا يستطيع رؤية ما داخل المستودع”.
أما النعامة، التي تُمثل سلطة الغابة العليا، فوقفت في وسط الميدان، ورأسها مغروز في الرمال حتى الأذنين، تُردد كالببغاء: “لا توجد أزمة، الكنز بأمان”! بينما كانت تُرسل مبعوثيها سراً لشراء قصورٍ في لندن وشققٍ في إسطنبول. النعامة لا تُصَدِّق أن أحداً سيسألها ذات يوم: “لماذا رأسك في الرمال”؟! بل تُصر على أن “التحقيق جارٍ”، وأن “الجناة سيُقدَّمون للعدالة”، لكن العدالة في غابتنا تُشبه وحشاً أسطورياً: كلما اقتربت منه، ابتعد!
في أطراف الغابة، حيث تعيش الأغنام، كانت الفضيحة تُتابع بقلوبٍ مُنهكة. الأغنام، التي تدفع الضرائب من لحمها ودمها، لم تحصل إلا على الفتات. تُعاني من عطشٍ وجوع، بينما تُنفق أموالها على حفلات الذئاب وسهرات الثعالب. ح
اولت بعضها الاحتجاج، فصُدِمَت أصواتها بزئير الذئاب: “هذه مؤامرةٌ خارجية!” أو “هذا الشعبُ جاحد!” الأغنام تتساءل ببراءة: “لماذا نُذبح نحن كلما أرادوا حفلاً؟” لكن لا جواب، فالغابة لا تُجيب إلا بلغة القوة.
طارت طيورٌ صغيرة تحمل أخبار السرقة، لكن الذئاب أطلقوا عليها صيادين مُدَجَّجين بقوانين “مكافحة الإرهاب”. النعامة قالت: “هذا إعلامٌ مُضلل!” بينما كان الثعلب يُعلّق من شرفة قصره الجديد: “الحرية تُمارَس بالسكوت!” الطيور الصغيرة، التي كانت تُغرد بصدق، إما اختفت أو انضمت إلى قطيع المُهَلِّلين.
اليوم، وبعد أن نُهبت الأموال، تُطالب الأغنام بتحقيقٍ دولي، والنعامة تُعلن أن “القضية في أيدٍ أمينة”، والثعلب يُدير قناة فضائية يُبرر فيها أنه “أنقذ الكنز من الإرهاب!”.
في غابة العراق، العدالة أسطورةٌ تُحكى للأطفال قبل النوم، والشعب يُذكّر نفسه: “غداً سنحاسب!” لكن الغد يأتي، ويُسرَق كنزٌ جديد، ويُعاد إنتاج الثعالب والذئاب بوجوهٍ أكثر بَريقًا.
في الختام، تَنتهي الحكاية بضحكة ثعلب ساخرة تُسمَع من بعيد، ودموع خروف مُنسِيّ تذرف في صمت، ووعود نعامة لا تُرى إلا بين الرمال. تبقى الأسئلة عالقة كالغيوم فوق الغابة: هل ستستمر الأغنام في الرعي في حقول الأوهام؟ أم سيأتي عصرٌ تكتشف فيه أن صوتها أعلى من عواء الذئاب؟
في هذه الأثناء، تستمر اللعبة، وتُسرَق الأحلام، وتُدفَن الحقائق، وتُكتَب السجلات بقلمٍ غارق في الحزن. في أدغال العراق، لا يُحاسب اللصوص، بل يُخَلَّد ذكراهم؛ ولا تُعاقب الخيانة، بل تُكافَأ؛ ويُربي البشر أطفالهم على أن: “الصمت أشرف مهنة”!
…………………..
كيف سرق الثعلب أحلام الأغنام بإذن النعامة
كامل الدلفي
للتذكير كي لا ننسى مزادُ الضباع في تلك السهول، حيث يسبق أنين الأرض صهيل خيولها، حُكيَت حكايةٌ لا تُروى من قِبَل الحكّائين، بل على جدران البيوت المهدمة وفي عيون الأطفال الذين يتوقون لرغيف خبزٍ يفوق أحلامهم. في أعماق وادي الرافدين، حيث يُطلق على النهر اسم “أمّنا” لأن الفتيات يغسلن أحزانهن فيه قبل غسل ثيابهن، عاش تمساحٌ يُدعى “مركزي”. كان أهل الوادي يُنادونه بصوتٍ خافت “أبو الدنانير”، لأنه كان يحرس بحيرةً من الذهب السائل لا يرتوي منها عطشانٌ ولا يرويها ظمآن. كان الذهب كسائلٍ أرجوانيّ يتدفق في عروق الأرض، لكنه لم يغن عن جوع او عطش. في يومٍ من الأيام، وفي مكانٍ مُشابهٍ تمامًا في هذا الوادي، خرجت الضباع من الغابات البعيدة. كانوا يرتدون عباءات حريرية ويتحدثون لغةً تشبه لغة سكان الوادي، لكنهم أتقنوا فنّ طرح الأسئلة دون انتظار إجابة. قالت الضباع للتمساح: “لم
اذا تترك الذهب يضيع؟ ألا تلاحظ أنهم لا يُقدّرون ثمنه؟ دعنا نُدير لك سوقًا، نبيع فيه قطرات من الذهب لمن يعرف قيمته، ونُزوّدك بأوراقٍ زاهية الألوان كبديل، تُعلّقها على جدران قصرك، فيظنّك الجميع ملكًا لا يُقهر.” ابتسم التمساح كاشفًا عن أسنانه البراقة، لكن ابتسامته كانت كشعاعٍ يُشرق على قبرٍ فارغ. تردد على العرض، فبدأت الضباع تنسج خيوطها، لكنّ الخيوط كانت من حرير الأكاذيب، مُطرّزة بخيوط الظلام. في إحدى ليالي الصيف، عندما كان المشاهير أكثر شيوعًا من البشر، أشعلت الضباع شمعة كبيرة من الشمع الأبيض وكتبت على جدران البحيرة: “فاتورة شامبو الزيتون الجبلي العطري – 1000 دينار” و” و”فاتورة توابل شاورما نخيل بابل – 500 دينار”. لكن الشمعة لم تكن لتنير الظلام، بل لتخفي ملامح اللصوص. وصل سنجاب صغير يحمل كمية من المكسرات ليشتري رغيف خبز. أعطوه ورقة مزخرفة كُتب عليها “سند إذني”. ابتسم السنجاب وقال: “لا اقراء، لكنني أفهم أن الجوع لا يشبع بالورق”. في تلك اللحظة، اكتشف التمساح أنه باع الذهب للأرواح، لكنه بدا كصبي يحمل قطرة ماء في كفه، معتقدًا أنه يحمل بحرًا هائلًا. في تلك اللحظة، كان نسر أبيض، يُعرف بـ”عين السماء”، يحوم فوق الوادي، يراقب كل شيء، حتى حركة النمل تحت الصخور. هبط النسر كالرعد وصاح بصوت يهز الجبال: “الضباع تأخذ الذهب لتجهيز الدببة والثعالب لقتلكم!”. أمر النسر بتجميد أجنحة التمساح الصغير ” مركزي” وطرد عشرين ضبعًا من البحيرة، ثم أنهى المزاد، تاركًا الضباع ترتجف في الظلام كأوراق الشجر في إعصار. لكن الكارثة لم تنتهِ؛ بل بدأت للتو. انحسر النهر الذهبي، وتحولت البحيرة إلى بركة من الغبار، وارتفعت شحنة القطرة إلى ألف وخمسمائة حبة رمل. هربت السناجب إلى الخليج، بينما استمر الصغار في التحديق في بطونهم الخاوية وسؤال أمهاتهم: “لماذا لا يُشبع الذهب جوعهم؟” في ليلة من ليالي كانون الاول، كانت أشد برودة من دموع أمهاتهم، أغلق التمساح فمه في المزاد، لكن البومة الذكية، التي كانت تجثم على شجرة عتيقة بينما أصبح النهر ضحلًا، همست: “احذروا… الثعبان لا يزال تحت الصخور، ينتظر أن تغفو أعينكم”. سأل أرنب صغير أمه: “ألا يعلم التمساح أن الضباع ترتدي قلادات من ذهب مسروق؟” أجابت الام بصوت أجش: “يبدو أن عينيه تلمعان بنفس القطرات، لكنهما لا تلمعان للوادي، بل للظلام الذي يحيط به.” في الظلام، أخذ ابن آوى، الملقب بـ “الذئب الذكي”، ورقة جديدة وكتب عليها بخط متعرج: “فاتورة أحلام صغار بلاد الرافدين – مليون دينار”. مزقها وضحك ضحكة كذئب جائع يعوي في ليلة غائمة. “عندما تتحول القوانين إلى خيوط عنكبوت،” لا يلتقط الفخ سوى الفراشات الصغيرة، بينما تحلق النسور فوق خيوط العنكبوت.