توماس باراك يعرض رؤية أميركية مختلفة للشرق الأوسط

هيئة التحرير7 ديسمبر 2025آخر تحديث :
توماس باراك يعرض رؤية أميركية مختلفة للشرق الأوسط

تجربة غزو العراق كانت نموذجاً لسياسة يجب عدم تكرارها خصوصا بعد أن أفضت الصيغة الفيدرالية التي دفعت بها واشنطن إلى ما سمّاه باراك تجزئة بنيوية شبيهة بتجربة يوغسلافيا

في قراءته للوضع السوري استخدم باراك نبرة مختلفة إذ تحدث بإيجابية عن السلطة الجديدة هناك ورأى أنها أنهت “خمسين عاما من الفظائع”

واشنطن تخطط لإنهاء انخراطها العسكري الواسع بالشرق الأوسط، مكتفية بدور دبلوماسي وأمني محدود وبتحميل دول المنطقة عبء إدارة ملفاتها

باراك : حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني هو “شخص جيد” لكنه محاصر بتوازنات سياسية تجعل قدرته على الاستقلال محدودة

واشنطن / النهار

في مقابلة مطوّلة مع شبكة “ذو نايشن”، قدّم المبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس باراك، تقييماً غير مسبوق لعمق الإخفاقات التي رافقت التدخل الأميركي في العراق والمنطقة خلال العقدين الماضيين، متحدثاً بلغة حادة تشي برغبة إدارة واشنطن الحالية في إعادة صياغة مقاربتها للشرق الأوسط وتجنب إعادة إنتاج أخطاء الماضي.

وشكلت زيارة باراك الأخيرة إلى بغداد على ما يبدو، خلفية مباشرة لهذا التقييم، الذي تجاوز حدود الملف السوري ليشمل العراق ولبنان وإيران، وصولاً إلى مستقبل العلاقات الإقليمية.

وتقدّم تصريحاته كما وردت في المقابلة الأخيرة، مؤشرا واضحاً على مراجعة جذرية للدور الأميركي في الشرق الأوسط وبالأخص في العراق، حيث تبنّى خطاباً غير مألوف لمسؤول أميركي حالي، إذ قدّم اعترافاً صريحاً بثقل الأخطاء التي ارتُكبت خلال العقدين الماضيين، فالتدخل الأميركي، بحسب تقييمه، لم يحقق أي مكاسب استراتيجية رغم إنفاق ثلاث تريليونات دولار وخوض حرب طويلة خلفت مئات آلاف الضحايا، وأنتجت واقعاً سياسيا وأمنيا هشا سمح بصعود نفوذ إيران وفصائلها المسلحة.

 

وهذا التوصيف لا يقتصر على نقد جزئي أو تقني، بل يعكس موقفاً أقرب إلى الإقرار بأن تجربة غزو العراق كانت نموذجاً لسياسة يجب عدم تكرارها، خصوصا بعد أن أفضت الصيغة الفيدرالية التي دفعت بها واشنطن إلى ما سمّاه باراك “تجزئة بنيوية” شبيهة بتجربة يوغسلافيا، وتسببت في تعميق الانقسامات بدلاً من إدارتها.

وقدّم باراك مثالا بحكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني واصفا إياه بأنه “شخص جيد” لكنه محاصر بتوازنات سياسية تجعل قدرته على الاستقلال محدودة، بينما يعكس هذا التشخيص إدراكا أميركيا بأن الأدوات التقليدية للنفوذ الأميركي لم تعد فعالة وبأن بغداد باتت ساحة صراع إقليمي مفتوح تتعامل فيها طهران بواقعية وقوة أكبر مما تقابلها به واشنطن.

 

ومن بين الرسائل الأوضح التي حملتها تصريحات باراك هو إعلان انتهاء مرحلة الانخراط العسكري الأميركي الواسع في الشرق الأوسط، فقد أكد أن واشنطن لن ترسل قوات برية جديدة ولن تفتح خطوط إنفاق مالية ضخمة، وأن حضورها سيقتصر على دور دبلوماسي وأمني مركّز، مرتبط بملف مكافحة الإرهاب بالدرجة الأولى، وبسفارة ضخمة في بغداد وقنصلية نشطة في أربيل. ومن خلال هذا الإعلان، يبدو أن الإدارة الأميركية تسعى إلى نقل العبء الأمني والسياسي إلى دول المنطقة نفسها، مع الاحتفاظ بدور مراقب وضامن عند الضرورة.

 

وفي ما يتعلق بإيران، أبدى باراك استعداداً مشروطاً للحوار، لكنه شدد على رفض واشنطن لأي مفاوضات شكلية تطيل أمد النزاعات بالوكالة. وأشار إلى أن مشكلة التفاهم مع طهران هي في اختلاف طبيعة التخطيط: إيران تفكر بعقود طويلة، بينما تتحرك الولايات المتحدة ضمن دورات انتخابية قصيرة، وهو ما يجعل أي تسوية معرضة للاهتزاز. كما حذّر من مسار مفاوضات قد يتحول إلى فخ يمنح إيران مزيداً من الوقت لتعزيز نفوذها عبر حلفائها في المنطقة.

 

 

أما في لبنان، فقد قدّم باراك تقييماً حاداً للأزمة، معتبراً البلد “دولة فاشلة” اقتصاديا وماليا، لكنه رأى في الوقت نفسه فرصة لتجنب حرب أهلية جديدة، نظرا إلى رغبة معظم القوى السياسية في الامتناع عن الانزلاق إلى مواجهة شاملة. وأعاد التأكيد على التعقيد الفريد لملف حزب الله، فهو بالنسبة للولايات المتحدة منظمة إرهابية، لكنه في الداخل جزء من النظام السياسي وعنصر تمثيل رئيسي للطائفة الشيعية. ولذلك يرى باراك أن الحل لا يمكن أن يمر عبر نزع السلاح بالقوة بل من خلال اتفاق يحد من استخدامه ويعيد ضبط العلاقة بين الحزب وطهران في إطار تسوية أوسع تشمل الحدود والأمن في الجنوب.

 

وكشف في هذا السياق عن توجّه أميركي لدفع لبنان نحو حوار مباشر مع إسرائيل، باعتبار أن التسويات المستدامة تتطلب اعترافاً متبادلاً ومساراً واضحاً، وليس الاكتفاء بآليات غير مباشرة.

 

وفي قراءته للوضع السوري، استخدم باراك نبرة مختلفة، إذ تحدث بإيجابية عن السلطة الجديدة هناك ورأى أنها أنهت “خمسين عاما من الفظائع” وتسعى لاعتماد نهج تعاوني بعد انضمامها للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش، مشيرا إلى أن الحل، من وجهة نظره، يحتاج إلى اتفاق أمني وحدودي مع إسرائيل قد يفتح لاحقاً الباب أمام تسوية أوسع.

 

وبدا لافتا أن باراك اختتم حديثه بتقويم نقدي للسياسة الأميركية الأوسع، مؤكداً فشل معظم محاولات تغيير الأنظمة التي رعتها الولايات المتحدة منذ منتصف القرن الماضي، معتبرا أن إدارة الرئيس دونالد ترمب تتحرك وفق مقاربة مختلفة، لا تعتمد على تغيير الأنظمة من الخارج، بل على تشجيع حلول إقليمية تصوغها دول المنطقة نفسها، مع بقاء واشنطن لاعباً مساعدا لا قائدا مباشرا.

 

وتكشف تصريحات باراك عن رغبة أميركية في إعادة صياغة دورها في الشرق الأوسط والانتقال من التدخل المباشر إلى إدارة النفوذ من مسافة محسوبة، مع الاعتراف الضمني بأن موازين القوى الإقليمية لم تعد كما كانت وأن واشنطن مضطرة للتعامل مع واقع سياسي جديد يتطلب براغماتية أكبر وأدوات أقل تكلفة.

وكشفت إستراتيجية الأمن القومي الأميركية لفترة حكم الرئيس دونالد ترامب الثانية، التي أزاح البيت الأبيض الستار عنها صباح الجمعة، عن تطلعات مباشرة للرئيس الأميركي فيما يتعلق بالشرق الأوسط.

 

وتضمّنت الإستراتيجية -التي جاءت في 33 صفحة- عرضا مفصلا لرؤية ترامب لعلاقات بلاده بالشرق الأوسط، وتوقعاته من هذه العلاقات التي تختلف جذريا عن بعض ثوابت السياسة الأميركية التقليدية تجاه المنطقة.

 

وعكست الإستراتيجية رغبة ترامب في بقاء بلاده كقوة كبرى مهيمنة على الشرق الأوسط، وسط حالة من التنافس الدولي، دون أن يرتبط ذلك بدور عسكري ضخم أو مباشر.

 

واعتبر ترامب أن ساحة الشرق الأوسط تتغير باتجاه علاقات وشراكة قوية مع الولايات المتحدة تعتمد على جذب الاستثمارات المالية والتكنولوجيا والدفع تجاه تبني إصلاحات سياسية أو ديمقراطية بضغوط أميركية بدل سياسات تغيير الأنظمة.

 

ويهدف نشر الإستراتيجية -التي أصبحت عرفا لكل إدارة أميركية جديدة في سنة حكمها الأولى- إلى نقل رغبات وتصوّرات البيت الأبيض تجاه العالم الخارجي، سواء للأميركيين أو لدول العالم.

 

كما أن نشرها يُرسل إشارات إلى مختلف جهات وأجهزة صنع القرار الأميركي حول توقعات الرئيس تجاه القضايا الخارجية الأساسية التي تواجه الولايات المتحدة.

غموض وغياب الأيديولوجيا

منذ وصوله إلى الحكم للمرة الأولى في يناير/كانون الثاني 2017، ونجاحه في الوصول إلى البيت الأبيض للمرة الثانية في يناير/كانون الثاني 2025، يحاول الخبراء والمراقبون داخل وخارج الولايات المتحدة استيضاح طبيعة محركات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قضايا السياسة الخارجية عموما، وما يتعلق بالشرق الأوسط خصوصا.

 

ويعقّد من صعوبة الإجابة غياب إطار أيديولوجي يشكّل مرجعية لترامب، فبعيدا عن التزامه العام بمبدأ “أميركا أولا”، لا يُعرف عنه اتباع نهج محدد تجاه قضايا ومصالح واشنطن في الشرق الأوسط.

 

وتضمنت إستراتيجية الأمن القومي الجديدة تطلعا صارما من الرئيس ترامب للحفاظ على مكانة أميركا، كأقوى وأغنى دولة في العالم لسنوات قادمة.

 

ولتحقيق ذلك، ذكر ترامب في مقدمة الإستراتيجية أن “تحقيق ذلك يتطلب وضوحا حول أهدافنا والأسباب التي تقف وراء ذلك، ومن الضروري لجميع الأميركيين أن يفهموا ما نهدف إلى تحقيقه ولماذا”.

 

وتستند رؤية ترامب إلى “توقعات واقعية” حول ما يمكن وما يجب تحقيقه في العلاقات مع الدول الأخرى، بهدف تعزيز العلاقات الدبلوماسية والتجارية الإيجابية حول العالم. ويكرر أن بلاده “لا تسعى لفرض نماذجها الخاصة للديمقراطية أو التغيير الاجتماعي بشكل لا يتماشى مع العادات المحلية في العديد من دول العالم”.

 

 

الأهداف في الشرق الأوسط

أشارت الإستراتيجية المنشورة إلى أن زيارات الرئيس ترامب الرسمية إلى دول الخليج في مايو/أيار الماضي، أكدت قوة وجاذبية النموذج الأميركي، خاصة في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

 

وكررت الإستراتيجية أن مشهد الشرق الأوسط الجيوإستراتيجي يتغير، منتقدة وضع المنطقة من قبل الإدارات الأميركية المتتالية على سلم أولويات السياسية الخارجية لواشنطن خلال نصف القرن الأخير.

 

وترى أن هذا التركيز كان مدفوعا بعدة مخاوف جوهرية، على رأسها هيمنة المنطقة كمورد عالمي للطاقة، ومكانتها كساحة مركزية للمنافسة بين القوى العظمى، والصراعات المستمرة التي هددت بالامتداد لخارج الإقليم، ومخاطر وصولها إلى الولايات المتحدة نفسها.

 

وترى الوثيقة أن مشهد الشرق الأوسط “تغير بشكل كبير، مما جعل العديد من هذه العوامل أقل إلحاحا من ذي قبل”، وأبرزت أولوية منع أية قوة معادية من السيطرة على المنطقة، بما في ذلك موارده الحيوية من النفط والغاز والطرق المائية.

 

وفي الوقت نفسه، ابتعدت واشنطن عن سيناريو الحروب العسكرية الطويلة، أو “الحروب الأبدية”، التي “أسفرت سابقا عن تكاليف كبيرة وتورط طويل الأمد في الشرق الأوسط”.

 

 

من الصراع إلى الاستقرار

ورغم أنها أشارت إلى الخليج العربي باسم “الخليج الفارسي”، اعتبرت الإستراتيجية أن مستوى الصراع في الشرق الأوسط أقل حدة مما كان على مدار السنوات الماضية، وأرجعت ذلك إلى ضعف إيران، التي اعتبرتها لفترة طويلة القوة الرئيسية المزعزعة للاستقرار في المنطقة، وذلك بعد تعرضها لضربات إسرائيلية، وقيام إدارة ترامب نفسها بشن عملية “المطرقة الليلية” في يونيو/حزيران الماضي، معتبرة أنها أضعفت البرنامج النووي الإيراني.

 

من ناحية أخرى، امتدحت الإستراتيجية دور ترامب في تهدئة ما أسمته “الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”، وأثنت على جهوده للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين.

 

لكنها بالمقابل رأت أن سوريا تظل “نقطة قلق”، واعتبرت أن التعاون المتزايد بين الولايات المتحدة والدول العربية وإسرائيل وتركيا يمنحها الأمل في الاستقرار وإعادة اندماجها كلاعب إقليمي بناء.

كما ركزت الإستراتيجية على إبراز تبعات تغير خريطة إنتاج واستهلاك الطاقة العالمي، وزيادة إنتاج الطاقة الأميركية، حيث ترى إدارة ترامب أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت “مصدرا ووجهة للاستثمار الدولي، وتتوسع في مجالات مثل الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي وتقنيات الدفاع”.

 

موضحة أنه “يمكن للجهود التعاونية مع الشركاء في الشرق الأوسط تعزيز المصالح الاقتصادية، بما في ذلك تأمين سلاسل التوريد وتطوير أسواق مفتوحة وودية في مناطق مثل أفريقيا”.

 

 

تغير الآلية

تضمنت رؤية البيت الأبيض تأكيدات بضرورة الابتعاد عن الأساليب السابقة التي ضغطت على دول الشرق الأوسط -خاصة دول الخليج العربي- للتخلي عن تقاليدها أو طريقة حكمها، معتبرة أنه “بدلا من ذلك، يجب على الولايات المتحدة تشجيع الإصلاحات التي تظهر بشكل طبيعي محلي دون فرض نماذج خارجية”.

 

كما أكدت أن الولايات المتحدة سيظل لها مصالح حيوية في الشرق الأوسط، من أهمها:

 

ضمان عدم وقوع موارد الطاقة في الخليج بأيدي “أعداء واشنطن أو منافسيها”.

والحفاظ على حرية الملاحة في مضيق هرمز والبحر الأحمر.

ومنع المنطقة من أن تصبح مصدرا “للإرهاب”.

والحفاظ على أمن إسرائيل.

واعتبرت الوثيقة أن مواجهة هذه التحديات تتطلب جهودا أيديولوجية وعسكرية، لكن “ليس في صورة الحروب القديمة التي استمرت لعقود”. كما ذكرت أن “توسيع اتفاقيات أبراهام (اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل) لتشمل المزيد من الدول في المنطقة والعالم الإسلامي الأوسع” تعد هدفا رئيسيا لإدارة ترامب.

عاجل !!