تشرين الذاكرة التي لا تنطفئ | مصطفى طارق الدليمي

هيئة التحرير8 نوفمبر 2025آخر تحديث :
تشرين الذاكرة التي لا تنطفئ | مصطفى طارق الدليمي

تحلّ ذكرى ثورة تشرين لتعيد إلى الأذهان صورة العراق وهو يستيقظ من سباته الطويل على صوت جيلٍ جديد خرج من رحم المعاناة ليقول”نريد وطناً”

لم تكن تشرين مجرد احتجاجٍ عابر بل كانت لحظة فاصلة في التاريخ العراقي الحديث لحظة استعاد فيها الشباب ثقتهم بذواتهم وواجهوا الخوف بصدورٍ عارية وأحلامٍ كبيرة في تشرين 2019 لم تكن الساحات مجرّد أماكن للتظاهر بل كانت مختبراً للوعي الوطني من بغداد إلى البصرة ومن الناصرية إلى النجف ترددت الهتافات التي وحدت العراقيين تحت راية الوطن فقط بعيداً عن كل الانقسامات التي أنهكتهم لسنوات تلك الساحات لم تجمع المتظاهرين فحسب بل جمعت فكرة جديدة للعراق عراق المواطنة لا المحاصصة عراق الإنسان لا الانتماءات الضيقة.

ثورة بلا قائد لكنها قادت الوعي

كانت تشرين ثورة مختلفة في شكلها ومضمونها بلا زعيم بلا حزب بلا غطاء سياسي لكنها رغم ذلك استطاعت أن تهزّ أركان السلطة وتفرض خطاباً جديداً في المشهد السياسي فلقد خاض الشباب معركتهم ضد الفساد والبطالة وضياع الدولة فواجهوا الرصاص بصدورٍ مكشوفة وسقوا بدمائهم شوارع المدن كي تظلّ صرختهم شاهدة على زمنٍ حاولوا فيه استعادة الوطن ورغم الألم فإن تشرين لم تكن مأساة بل كانت ولادة جديدة للوعي الجمعي العراقي كشفت عن عمق الانقسام بين من يريد العراق دولة مواطنة ومن يريده مزرعة نفوذ وفي تلك المواجهة غير المتكافئة انتصر الوعي على الخوف وإن خسر الجسد في لحظة القمع.

تشرين من الاحتجاج إلى الفكرة

قد يظنّ البعض أن تشرين انتهت بانتهاء التظاهرات لكنّ الحقيقة أن الثورات لا تموت حين تُقمع بل حين تُنسى

تشرين اليوم ليست في الساحات لكنها في العقول والقلوب في الجيل الذي تعلّم أن الصمت جريمة وأن الحقوق لا تُمنح بل تُنتزع هي اليوم حاضرة في كل نقاش عن الإصلاح في كل جملة عن المواطنة وفي كل محاولة لاستعادة الدولة من قبضة الفساد والمحاصصة

لقد تركت تشرين بصمتها العميقة على الوعي العراقي وأعادت تعريف العلاقة بين المواطن والدولة فلم يعد العراقي يرى نفسه تابعاً بل شريكاً ولم يعد يقبل أن تُدار حياته من خلف الكواليس لقد أسقطت تشرين جدار الخوف وفتحت الباب أمام أجيالٍ جديدة لتفكر بصوتٍ عالٍ وتطالب بما تستحقه

الوعي الإرث الأكبر

الإرث الحقيقي لتشرين ليس في عدد الشهداء رغم قداستهم ولا في أيام الاعتصام الطويلة بل في التحوّل الذهني الذي أحدثته داخل المجتمع

لقد أصبح الوعي الشعبي أكثر جرأة وأكثر قدرة على النقد والمساءلة لم تعد الشعارات تُخدّر الناس كما في السابق ولم يعد الإعلام الموجّه يمرّ بلا تمحيص لكنّ هذا الوعي بحاجة إلى من يحافظ عليه ويحوّله إلى مشروعٍ سياسيٍّ واقعي يُكمل طريق التغيير فالاحتجاج وحده لا يكفي ما لم يُترجم إلى فعلٍ منظم وإرادةٍ مستمرة وهنا تكمن مسؤولية الشباب والنخب والإعلام والمؤسسات الأكاديمية في تحويل تشرين من لحظة إلى مسار ومن ثورة غضبٍ إلى ثورة بناء

تشرين باقية

رغم مرور الأعوام تبقى تشرين”حكاية جيلٍ لا ينسى ورمزاً لكرامةٍ لم تُهزم دماء الشهداء التي سالت في شوارع التحرير والناصرية والبصرة لم تذهب سدى بل أصبحت نبراساً لكل من يؤمن أن الوطن أكبر من الخوف.

تشرين لم تنتهِ لأنها تحوّلت إلى فكرة والفكرة لا تُقمع ستبقى تشرين عنواناً للكرامة وجرساً يُذكّر الجميع أن الوطن لا يُمنح بل يُستعاد.

عاجل !!